لَقِينَا نَصَبّاً



الغربة ناقص واحد "3"









كنت في الثامنة عشرة حين قامت القيامة. وساعة الحشر لما ولى جميع الناس مُدبِرين، بقي نفر قليل يزرعون ما في أيديهم من فسائل ويتصبرون بترديد الشهادتين. اليوم أنا في الخامسة والعشرين، أُعد من الناجين- بصعوبة - ومازالت فسيلتي التي حملت ساعة يناير في حقيبة ظهري، ذابلة لكن لا أبارحها ولا تبارحني.

(1)

" فإن قالَ لا أهوى ... فليسَ بصادقٍ وإن قالَ أهـوى …. أخْجَلَتْهُ المذابحُ!"


سلبتنا المذابح نور صدورنا وأغلقت نوافذ القلب. خلقت هواجسًا أكبر من أعمارنا، ومن حكايات الرعب التي نردد، ومن صورة الشرير في أذهاننا.

صار الحب ملحميًا كالسياق الذي ولد فيه، والصداقة تعقد على الدماء -ساخنة-، وقنابل الغاز. لكن الملاحم ترتبط بالخسارات كما تقول الكتب، فهل كان لزامًا علينا أن نخسر أنفسنا وجميع من نحب؟ هل تضحيتنا هي السبيل الوحيد لاستمرار السباق؟

صدقنا أننا الأبطال بينما كنا مخابيل نشاهد من الدرجة الثالثة والكرة بعيدة جدًا. وفي ختام المباراة، كنا نلهث بلا أهداف أحرزناها، ولا مجد صنعنا، ولا حتى سعادة النصر. مخابيل صدقوا أن بيدهم تغيير البلد لمدينة عادلة.

بتنا نؤرخ لأعمارنا بالحوادث الكبرى و بما كسبناه وخسرناه فيها. " الى بيهتفوا في مظاهرة طب"، " اتعرفنا في اعتصام نوفمبر"، " قبل أحداث رمسيس" ، " بعد اقتحام الجامعة بتاع يناير" "صيدلة يعني خمسة مارس الأسود" "ساعة هجوم هندسة الأولاني" " مكان موقعة أداب" .


شهد كل منا بعض من الحقيقة و أصبح هو -ذاته وذاكرته- جزءًا منها. ولم نعد نحتاج أن نعرف أكثر من اسم المقتول أو المأسور لنغضب له ونبكي عليه ونستعد للتضحية ببعض أيامنا وشبح حريتنا -ودمنا إن لزم الأمر- من أجل خلاصه.

(2)
ُ
"كل شئ ينسى يا صاحبي، كل شئ إلا الفُرْقة."


أنا أكره الموت، ولم أصدقه ولا مرة. أكذب حتى دلالاته في وقع "الله يرحمه، يرحمها!". لا أقولها عنهم عامدة، فقلبي لم يصدق بعد.

أرفع الصوت إذا أصابتني مصيبة "أنّي لله"، وبأني سأحتاج بعض الوقت.

يكون الصبر عند الصدمة الأولى، والفاجعة أخته التي لا تفارق. لكني لويت عنق المضغة الهشة، ورددت كالببغاء "الصبر ضياء" وسوف أتألم بعد حين.

وتترى ستروض الأيام شراستي في الخداع والمناورة. هذه الأيام -التي لا تأت أبداً- أضحت سنوات، وأنا لم أتفوه بها بعد!.

الرحمة لنا نحن يا صاحبًا!، فالحيّ يشعر وتذبحه البقايا، وما تقدم من العمر، والميت تشغله مخاوف آخرى.
وخوفي في حاجة سوداء إلي ضمة -لا تنفك- تجود بها صورة الأم والأخت.

أعرف أن الناس ترحل، وأن الموت حق، وأن الدوام محال. و قد كان هذا كله من قبل واجتزت به. و مازال يوجعني!. سيظل يوجعني إلا أن نبت لي فرع من خشب، ودفنت جذوري حيث سقطت آخر مرة.

أبتهج بالسفر الطويل، والتعب الذي لا أعرف له موعد، والمجهول، لكن ما يؤلمنى -بلا توقف- هو شوك الوحدة الذى انغرس فى كعبي؛ كلما خطوت كلما غاص في لحمي وصار بعضًا منه.

كل شئ يُنسى يا سيدي، لكن بعضنا لا يٌنْسِى بعضه.



(3)

"خائفة.. كيف أحكي عن خوفي يا صاحبي، و أنا أخطأ بينه وبين صورتي في المرآة؟."


كنت بحجم حبة أرز، جاء صغير وحبسها ببالونة سوداء وأخذ يملأها. هي لا ترى الدنيا إلا من ظلامها،اكتحلت الموجودات كلها به. وحين أتي أوانها خرجت و أبصرت بعين الأعمي أسرها الطويل، -فقاعة وهواء-، لكنها من الداخل كانت عالمها كله.

وخلف الضلوع؛ كان قلبي يشبه كثيرًا حلوى هلامية، سائلة وأي شئ ألقيته فيها يستقر في القاع، وكلما تجمد أصبحت أشيائك جزءًا منها، من لونها ورائحتها، ولا تخرج إلا وقد أخذت منه معها.

بعد سنين الوحشة السِتْ، تساقط كل شئ، و كبرت على مهل. نضج القلب الملتهب، لم يعد لأحد أن يترك به بقاياه ولا لما مضي أن ينحبس به،استقرت الحلوى في قالب و اتخذت شكلها. مازالت رخوة وهشة وتتمايل مع أى هزة، لكن حجرًا لا يبلغ كبدها بعد اليوم.

(4)


"فتشتني الدمعة عن مية .... كنت أنشف من حطب محروق ....شوفلي عود أصلب من المغشوش"


انفتح الجرح يا سيدي، ويحزن مشهده. تمزقت نفوسنا مئة قطعة. بعضها خلف شهيد وقعنا على ميتته وتصاعد روحه سكرة سكرة.. وآُخر خلف سجين -سبقتنا إليه عربة الترحيلات-وبعضها في ألم الظهر ؛ يذكرك كل ثانية بالجرح ، وتكسرت البقية فى شتات النفس. كلها تؤلم يا سيدي كلها- مازالت- تؤلم.

كانت الحمولة أثقل من سعتي وطاقتي فكتمتها، ومعها شعث البلد، ورهاب الأسر، وبقية الكرامة. كأن الحياة جلها انحبست في طاقة صغيرة وتقيحت، ثم خيطت بيد متردد منهزم.

وأنكرت ما جرى فكانت ثمة قشرة كالحجارة أو أشد قسوة أحاطت بنفسي تمامًا.وبعد سنوات عجاف، كأنه صار لك ألف شهيد وستين ألف مزوي وراء قضبان والعجز المكبل. وبقي أمامك طريقان: إما أن تجري هربًا ومتصنعًا السعي، وإما أن تمسح ذاكرتك و شِطر نفسك وتطأطئ رأسك.


(5)

"خذ من أحزاننا صدقة تطهرنا وتزكينا يا خالق الحزن والبأس"


ليلة حافلة مثلها حق لها أن تنتهي بعفوية هكذا فيطلع الصبح دون تباشير. سبع عشرة إبرة تنهش اللحم بحثا عن مسري إلي الجسد، لا وريد هنا أو هناك، تمزق ما حولها وتخرج خاسرة ، فتأتي الزرقة من بعد.

تقول السيدة في أول الكلام( أنت صبورة يا ابنتي )، تجري وراء الدماء بيأس، تتعرق .. ينتفخ من بعدها كل موضع ، تهتدي لشق ما ، ويسري السائل حارقاً. تقول: أنت حمولة جدا لو تعلمين !. وتذهب. أوشك أن أناديها لأخبرها أني أعرف ، وأن سنان محاقنها تلك ليست شيئاً يجهله هذا الجسد الضئيل.

أوشك أن أتحسس كل ندبة لنتصادق قبل أن تفرض وجودها عليّ، أوشك أن أحسب للألم كم مضي وأعتد لكم سيبقي. تكاد ابتسامة أن تفالتني، ولا يحسن بالوجه أن يكتمل، وتحسن العين تشف ما ورائها . أكاد أذكر كل ألم وكل قارعة هونتها فهانت، وكل نازلة قصمت الظهر و أتمتم .. ( مش هيبقي أغلي من الي راح .. )


(6)

"أرجو الحب الذي به تكتمل إنسانيتي وأكبر"

بحثت عنه فيما اختلطت به نفسي، فوجدت الأكتاف الساندة. عرفت من معني الحب ذلك الذي يقر في القلب ويصدقه العمل -باختلاف صورة المهدي إليهم قلوبنا-.

الفراغ الذي يتسلل رويدًا للنفس ولا يسكن إلا بالوصل، الأفراح التي لا تتم إلا إن تقاسمناها؛ بل لا نقيمها إلا متصاحبين، الأحزان التي لا تخفت إلا إن طرحت عند ذاك المقام، الألام التي تبارحنا ولم نصب بها يومًا.

الحكايات.. حكاياتنا التي لا نحتاج لسردها وقد خبرناها معًا نصنع تاريخنا الشخصي. كانت عدتنا الصبر وتعلل النفس بأوجه الخير ساعة الأذي.

لما مُنعنا كل ذلك وامتدت الوحشة، بقي الحب صادقُا وحقيقيًا كأول أمره، فعلمت أنه كان خالصًا وامتننت أن القلب يجرؤ علي ضخ دمائه نقية بلا زيف.




(7)





" وأرض المعتقل لما هتفضي أكيد هتدعيلكم"





الصغيرة تحفظ أسماء الله الحسنى كى تدخل الجنة، وتبتسم بخبث أن الله رزقها ذاكرة جيدة، "الجنة طلعت سهلة أهيه" وتقرأ قل هو الله أحد ثلاثًا كى تجمع الكثير من الحسنات. تفكر أحيانا أن تكتب في كشكولها الحسنات التى تفعلها كل يوم، كى تعرف كم جمعت. ثم ارتبكت في العد فقررت بعد هنيهة أن تثق بالملائكة.





زادت محبتها للملائكة حتى أنها حين مات الولد، ولم ينجده أحد صاحت تنادي للسماء أن يكفيهم أن يُِمُّدهم الله ببعض الملائكة مُْنَزلِين " يارب الحقنا محدش هنا قادر ينقذه الحقه يارب" . وحتى أنها حين تفتح الدفتر لتتذكر من ستدعو لهم يمر السحر كله وهي تردد أسماء " العيال"، " يا مُفرج الهم يُخرجوا قريب .. مش عايزين منها حاجة خلاص غيرهم يارب .. يسيبوهم لنا يارب". وتُسَلِّمْ عن يمينها وهي مازالت تتخيل أن الملاك على كَتِفها يصعد الآن إلى العرش حاملاً دُعائَها بِحِرْص.





لم يبق في الروح موضع لم تصبه ضربة سيف ولا رمح، وأن أوان العزْمِ الحق فإما حياة نرضى عنها ونلقاه بها وإما سعيًا في الأرض نجد مُراغمًا كثيرًا وسعة.





"ونور الله هو غايتنا في عتمة الظلم".

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

Chevening Scholarship Arabic Guide

Chevening Scholarship Interview Guide

IELTS Passing Brief guide