الغربة ناقص واحد /1
(1)
تدق الساعة لصلاة الفجر، الصوت يقول (الصلاة خير من النوم..) . فى الركعة الثانية تساوم نفسها الأمارة بالنوم على ركعتى السنة.. فتردها بإجابة ذكية ، "ركعتى الفجر خير من الدنيا وما فيها " توضح فضل الفجر نفسه لا سنته. تقتنع وتعود تلتحف ظلام الحجرة. يأتى شيطان النوم متأخرا عن موعده ويفوز فى موقعة جديدة فتستسلم له وتقرر الاستيقاظ والذهاب للميدان.
يوقظها أبوها فى الصباح تماماً كما كان يفعل للمدرسة ، فتفكر أن عليها أن تشكره. كبرت يما يكفى ولكنه -رغم التفاصيل- مازال هنا ليفعل لها ما لا تقدر عليه.
"ماذا لو ...؟ ".
(2)
تسأل سيدة عن مستشفى الأطفال الجامعى فتجيبها بثقة عن الطريق، يعارض وصفها راكب ويوجه المرآة للطريق معاكس. ترده وتدل الأم مصرة على خريطتها ،ثم تدير وجهها وتضحك. أصبحت الآن تحفظ الشوارع بعلاماتها وإن مرت بها مرة واحدة. الطريق يتغير فى كل عام ولكنها أصبحت محترفة كعمال الفاعل. ذاكرتهادوما ما أسعفتها ولكنها كانت ترفض أن تصدق أنها أصبحت من أهل البلد الذين يعرفونها.. أن تصدق أن الغربة ستدوم. فى الجامعة حفظت محطات المترو فى كل الإتجاهات، يكفى أن تسأل كم تبعد هذه المحطة ، لتعد لك الفواصل بالترتيب، أثارت عجب القاهريين أنفسهم وأضافت نقطة إلى كتاب الزهو السنوى.
تتصل الصديقة لتسألها عن الطريق- لأى مكان- فى كل مرة. اليوم صدقت أن البلد والذكريات ومولدها لن يعنيا فى المستقبل غير عبارة سيكررها أحفادها -وهم يتغامزون- " اتولدت وعشت فى المنصورة لحد الجامعة ، القاهرة دي ابأس مكان فى الدنيا ، يختىّ" ستأخذ نفساً بصعوبة وتثنى ساقها المصابة بخشونة المفاصل وتجرى وراء الذاكرة ترجوها أن تحتفظ لها بأيام الوطن.
"الوطن حين كان موجوداً"
(3)
نجحت اليوم - للمرة الأولى بحق- أن تفسح المجال لضيقها وغضبها أن يفصح عن نفسه لما يحل. تقول السيدة " معلش هتنتظرى ساعة ونصف" تفكر فى الساعة التى قضتها بالفعل فتلتوى شفتاها و ترسم عيناها أى شئ غير الرضا. تخرج دفترها وتسجل ( أيتها السيدة نفسى:_ أنا لم أقمعك اليوم، علك راضية عنى؟. أصدقك أن لسانى كاد يباغتنى بال " معلش ، اه تمام / مش مشكلة ، ولا يهمك ، حصل خير ، بسيطة ، لا مش مضايقه ، عادى محصلش حاجة". لكن ذلك الذى يلف القلب منذ زمناً بعيداً تنفس قليلاُ اليوم، ولم يرض لنا المحاكمات المتكررة ما بعد أن ننطق: " معلش".
(4)
تدون عمل اليوم ومهامه وقبل أن تنزع قدمها لخطوة الخروج. تسجل لنفسها رسالة " الناس لا يشبهوننا بالفطرة فلا بأس إن لم يفهموك أو تبرمت بهم، لا عليك ولا منهم حرج."
"يا سيدة "نفسى" : صوتك ينخفض حين يزيد الصخب بالجوار، فلنحاول أن نرفعه. صوت المدينة يؤلمنى ولا تسألى عن قدرتى أن أصم عنه - تعلميننى أستحى أن أدير خدى-"
" الشعب يريد إسقاط النظام ... الشعب يريد إسقاط النظام". يرتفع ضغط دمها فجأة وتتلفت بحثاً عن هاتفها ( كيف نسيت و اختارت الهتاف صوت تنبيه للإتصال؟!). وبين الارتباك والعجب، أتاها الفخر ؛ أنها مازالت "هى" رغم - احتلال الخوف صدرها-.
زميلة لها تحنى جذعها إلى اليسار وتبحث فى هدوء عن شئ. تضغط على زر ما فى الحقيبة فيختفى الصوت.
(5)
الأستاذ هو مدرس كان مقرراً أن تتعلم على يديه منذ سبع سنوات، واليوم تأتيه عن اختيار. أتت لما ذهب وأتى لما ذهبت . يمد يديه مشيرا إلى الشاشة وهو يعدل الكوفية الصفراء والقلم يكتب وحده. تنتبه إليه - فقط- فى منتصف الليل والعربة تخلو من فتاة سواها، فتجيب عن السؤال الذى سألها إياه فى حرج لكنها لا تجده.
يختفى الأستاذ وتعود العربة. تجرى المصابيح على الطريق؛ (صفراء كلون الحائط خلف رأسه، وكالابتسامات المصطنعة التى اعتاد أن يغلق بها الأحاديث حين يتعب)، تضئ جانباً واحداً من سكتهم فى بخل وتنتظر الصباح ليرحمها من مهمتها العليلة ، وسور الجامعة بقمامته ينتهى بأسلاك شائكة، تماماً كباب المعبر وهم منتظرين للخلاص.
مسيحاً مخلصاً لا يعلم كيف يكون خلاصة ولا فى سبيل، وفاته أن الغربة -كلها- لا تحتمل.
تدق الساعة لصلاة الفجر، الصوت يقول (الصلاة خير من النوم..) . فى الركعة الثانية تساوم نفسها الأمارة بالنوم على ركعتى السنة.. فتردها بإجابة ذكية ، "ركعتى الفجر خير من الدنيا وما فيها " توضح فضل الفجر نفسه لا سنته. تقتنع وتعود تلتحف ظلام الحجرة. يأتى شيطان النوم متأخرا عن موعده ويفوز فى موقعة جديدة فتستسلم له وتقرر الاستيقاظ والذهاب للميدان.
يوقظها أبوها فى الصباح تماماً كما كان يفعل للمدرسة ، فتفكر أن عليها أن تشكره. كبرت يما يكفى ولكنه -رغم التفاصيل- مازال هنا ليفعل لها ما لا تقدر عليه.
"ماذا لو ...؟ ".
(2)
تسأل سيدة عن مستشفى الأطفال الجامعى فتجيبها بثقة عن الطريق، يعارض وصفها راكب ويوجه المرآة للطريق معاكس. ترده وتدل الأم مصرة على خريطتها ،ثم تدير وجهها وتضحك. أصبحت الآن تحفظ الشوارع بعلاماتها وإن مرت بها مرة واحدة. الطريق يتغير فى كل عام ولكنها أصبحت محترفة كعمال الفاعل. ذاكرتهادوما ما أسعفتها ولكنها كانت ترفض أن تصدق أنها أصبحت من أهل البلد الذين يعرفونها.. أن تصدق أن الغربة ستدوم. فى الجامعة حفظت محطات المترو فى كل الإتجاهات، يكفى أن تسأل كم تبعد هذه المحطة ، لتعد لك الفواصل بالترتيب، أثارت عجب القاهريين أنفسهم وأضافت نقطة إلى كتاب الزهو السنوى.
تتصل الصديقة لتسألها عن الطريق- لأى مكان- فى كل مرة. اليوم صدقت أن البلد والذكريات ومولدها لن يعنيا فى المستقبل غير عبارة سيكررها أحفادها -وهم يتغامزون- " اتولدت وعشت فى المنصورة لحد الجامعة ، القاهرة دي ابأس مكان فى الدنيا ، يختىّ" ستأخذ نفساً بصعوبة وتثنى ساقها المصابة بخشونة المفاصل وتجرى وراء الذاكرة ترجوها أن تحتفظ لها بأيام الوطن.
"الوطن حين كان موجوداً"
(3)
نجحت اليوم - للمرة الأولى بحق- أن تفسح المجال لضيقها وغضبها أن يفصح عن نفسه لما يحل. تقول السيدة " معلش هتنتظرى ساعة ونصف" تفكر فى الساعة التى قضتها بالفعل فتلتوى شفتاها و ترسم عيناها أى شئ غير الرضا. تخرج دفترها وتسجل ( أيتها السيدة نفسى:_ أنا لم أقمعك اليوم، علك راضية عنى؟. أصدقك أن لسانى كاد يباغتنى بال " معلش ، اه تمام / مش مشكلة ، ولا يهمك ، حصل خير ، بسيطة ، لا مش مضايقه ، عادى محصلش حاجة". لكن ذلك الذى يلف القلب منذ زمناً بعيداً تنفس قليلاُ اليوم، ولم يرض لنا المحاكمات المتكررة ما بعد أن ننطق: " معلش".
(4)
تدون عمل اليوم ومهامه وقبل أن تنزع قدمها لخطوة الخروج. تسجل لنفسها رسالة " الناس لا يشبهوننا بالفطرة فلا بأس إن لم يفهموك أو تبرمت بهم، لا عليك ولا منهم حرج."
"يا سيدة "نفسى" : صوتك ينخفض حين يزيد الصخب بالجوار، فلنحاول أن نرفعه. صوت المدينة يؤلمنى ولا تسألى عن قدرتى أن أصم عنه - تعلميننى أستحى أن أدير خدى-"
" الشعب يريد إسقاط النظام ... الشعب يريد إسقاط النظام". يرتفع ضغط دمها فجأة وتتلفت بحثاً عن هاتفها ( كيف نسيت و اختارت الهتاف صوت تنبيه للإتصال؟!). وبين الارتباك والعجب، أتاها الفخر ؛ أنها مازالت "هى" رغم - احتلال الخوف صدرها-.
زميلة لها تحنى جذعها إلى اليسار وتبحث فى هدوء عن شئ. تضغط على زر ما فى الحقيبة فيختفى الصوت.
(5)
الأستاذ هو مدرس كان مقرراً أن تتعلم على يديه منذ سبع سنوات، واليوم تأتيه عن اختيار. أتت لما ذهب وأتى لما ذهبت . يمد يديه مشيرا إلى الشاشة وهو يعدل الكوفية الصفراء والقلم يكتب وحده. تنتبه إليه - فقط- فى منتصف الليل والعربة تخلو من فتاة سواها، فتجيب عن السؤال الذى سألها إياه فى حرج لكنها لا تجده.
يختفى الأستاذ وتعود العربة. تجرى المصابيح على الطريق؛ (صفراء كلون الحائط خلف رأسه، وكالابتسامات المصطنعة التى اعتاد أن يغلق بها الأحاديث حين يتعب)، تضئ جانباً واحداً من سكتهم فى بخل وتنتظر الصباح ليرحمها من مهمتها العليلة ، وسور الجامعة بقمامته ينتهى بأسلاك شائكة، تماماً كباب المعبر وهم منتظرين للخلاص.
مسيحاً مخلصاً لا يعلم كيف يكون خلاصة ولا فى سبيل، وفاته أن الغربة -كلها- لا تحتمل.
تعليقات
إرسال تعليق