فاضل خمس دقايق

آخر صورة لمحمد في عالمنا، على الجانب الذي نحياه من السلك. 28 12 2019 الثالثة فجراً. 



عزيزي حمادة - عمود البيت - أحكي لك اليوم لأن عاماً قد تم وانقضى ربع الذي يليه، وأنت - الآن- في سيارة الصفيح الأزرق يخايلك مصيرك المجهول. ولأن العشرين دقيقة وراء السلك- إن طالت لهذا الحد- لم تكن لتكفي أكثر من السلام.

ولأن مقاومتي التى أشد على عراها أمام كل باب إليك يضعفها الحديث، وتخور أمام الأفكار والمشاعر. لذا أحبسها حتى بت أحتاج لخمسين معي يحملون ما أسررت. لذا أحكي لك، وعنك، ما حٌبَستَ فيه عن الدنيا،وحٌبِسَتْ عنك.لأونسك ... وأستعيد بشريتي وراء الحاجز.

(1)

لاجئون 
بدأت الكتابة إليك وسط زحام الطريق الدائري في ساعات الصباح الأولى، طريقنا إليك طويل ويحملنا عليه حبك والقلق عليك. أنظر لمن سبقوني إلى الطوابير فأتذكر رسم غسان كنفاني لمشهد الوقوف علي سلك الاونروا في قرية بيت صفافة بين فلسطينيي الداخل ورام الله، يلتقون أهلهم بعد سنوات من الفراق وجهود الأمم المتحدة لتأمين دقيقتين وراء الحاجز ليحادث الحي الحي ويعرف خبر الميت. كم نشبههم يا محمد ونحن وقوف، وكم يشبه ذاك السلك حاجزهم، وطابورنا الطويل ليس يختلف عن طوابير اللجوء على الحدود. لاجئون نحن ايضاً يا حمادة: لاجئون نحو العدل. ومتزاحمون على بابه بلا رد. سأحكي لك اليوم عن حيلتي الجديدة في توريط المجاز والتورية في مقاومتي، فنحن نتورط في الشيء الذي يطغى حضوره ويمكننا ادعاء السيطرة على الغائب (على المجاز). أتذكر تسمية بوش لشهداء العراقيين ساعة حربه بالخسائر الجانبية؟ صار أهل اللغة يضربون بها المثل في Euphemism التغطية عمداً على ما لا نريد قوله. كان أول ما بدأت به حيلة توريتي يا محمد غيابك. فلكي أقاوم، صار اسم زنزانتك "الظروف" التي ننتظرها تنتهي و "البلاء" الذي ننتظره أن يرفع. (2) الغائب سأحكي لك اليوم عن  "المغيبون" عن ألم أم غير أمك وأب غير ابيك وأخت غير أختك فعَلّ في الألم ما يهون بعضه بعضاً. عزيزي حمادة أنت تذكر يوم حفل استقبال المنحة، ساعتها أرسلت لكم عدداً لا نهائياً من الصور والتسجيلات لمئات من الشباب الفرحين المستبشرين من كل أنحاء الدنيا، كلنا نحلم بغد أفضل ونثق بأن جمعنا ذاك يفتح باب لهذا الغد. إلا أن صورة بقيت لم أرسلها لك لأني -في الأصل- لم أجد الجرأة لألتقطها. وقف الشباب والصبايا يرفعن حروف كلمة "سوريا" بدلاً من العلم لأنهم أصبح لهم علمين ومشربين في القلوب لا يخلص أحدهما دون دم الآخر. سالت دموعي وتَعجّبَ لي المٌصَاحبيِن. لكني من بينهم جميعاً سأحكي لك عن الغائب عنهم (عن صبحي) الشاب الحلبي، وهو الذي في عامه هذا  يتم التاسعة والعشرين لكنه يتمها او لا يتمها. فهو قيد الاحتمال، احتمال الغياب ووراءه ألاف القصص التي ربما عاشها أو غاب عنها. صبحي الأخ الأكبر لحبيبتي الصابرة "حلا" (غائب) ولم أعرفه إلا في عين حلا وقولها " لم يخرج أهلي وبقوا ينتظرونه". كانت حلا رزقاً طيباً في مدينة باردة، كم حبست عنها زفراتي ودموعي كلما لاح ذكر صبحي فما أشد طعم العجز. لم يتيسر لنا الزمن لأحكي لك قصتها.. كيف كانت تقطع الحاجز الدموي كل أسبوع وسط القذائف والصواريخ.. لم أحك لك  عن ذاكرتها يوم سقطت الشهباء التي بكيناها طوال شهر بل أشهر.أرسلت حلا معي هدية لحمودي، أخوهما الأصغر، الذي اتضح أنه رجلاً كبرته الأيام في إحدي منافى اللجوء، فرأيت صبحي في وجهه جلياً واضحاً فكيف يكون غائباً إذاً وهو في عينيهما بهذا القدر؟؟. لكن الغائبون يا مُحَمَّد سكاكين في وجه ما خفي من القدر. فكٌلمّا همَمّتْ بأن أغرق تحت الخوف والمجهول أرى عند الباب صبحي ودموع حلا التي لم تنسكب أمامي ولم أر نياط قلب أمه المتقطع ولا رعب الاحتمالات التي لا تنقطع، لأنها والله لا تنقطع. أحمل وجه حلا وصبر حلا أمامي فاستكين، فإن تحملن الغياب عشر سنوات كاملات، علينا نحن أن نتحمل ضيق المكان وانقباض نفوسنا علينا. أحكي لك يا محمد عن حلا التي أحببتها كأختي ولم ينقض من عمرنا معاً إلا أيام لكن الغياب الذي تحمله فوق ظهرها وفي صدرها مد بين عمرينا خطاً قديماً من الأسى لكل مكروب والحق الذي نرجو اتباعه، من رجاءاتنا في عالم آمن وكريم وإن تباعدت الأرض. أفكر في صبر حلا وفي غائب حلا فأعلم أن غيابك المشروط بعشرين دقيقة كل شهرين ووجهك المتشتت بين فروغات السلك، "غياب محتمل" أو قل "غِيابٌ نعلمه".
(3) انت الي يهوذا كنت أرتب الطعام وأصلي بالنبي عليه ألف مرة أرجو أن يصلك وهو كل ما أستطيعه لك في الدنيا حين هزني الصوت "هوريك الي بنعمله في السياسيين هنا". كان هذا صوت إياد نصار في تلفاز أمك وهو ... لا لن أصف لك ما فعل سأعيد استخدام سطوة التورية كي أخبرك أنه تجلِ آخر للغياب فما إن غبت حتى اكتسبت صفاتاً جديدة 'كالسياسي"  بديلاً عن صفاتك كلها. ولم تلبث لفظة "السياسي" أن خلقت لها حضوراً أثقل من الحقيقة تفاجئنا حتى على شاشات الخيال. لم تفلح التورية يا محمد في هزم الغياب. كتبت لي في آخر رسالة تذكرني حين كنت تغار مني وتفخر بي ونحن صغار حين كان اسمك " أخو مي" و صبرك على القراءة التي أدمنها، عن الحرب العالمية وتاريخ الالمان الذي تحب. أقول لك الحق كم أراك كبرت في غيبتك، وكم أفضى بك وصف الغائب لمراتب الصبر والحكمة. أرى ابتسامتك القلقة وحديثك مع المخبرين توصيهم بي، ورجاءاتك أن تحتضنني لثوان وكم أودَ أن أخبرك ألا ترجو أحداً أبداً، لأنى لا يصلب طولي إلا يقين- أربيه بصبر طويل- أن الأمر كله بيد الله. فإن سمحوا أو منعوا فإنما بنفذون مشيئته. (4) يا خسارة يا أزهار البساتين
كان يوم الزيارة يوماً ثقيلاً يا محمد، هذه المرة. خرجت وأنفقت اليوم كله فيك وعنك. نحكي عنك وعنا وعن ما يقطعنا وما نختلف فيه، كنت محور حركتنا، وكانت مشاعري تتفتح والألم الذي داريته نحو عاماً ونصف يضغطني كضغط الحديد للحديد. انفجر ألمي في لحظة خوار - أنحني احتراماً لها أن زارتني أخيراً- وأعجب لأمري أن تحملت عاماً ونصف كاملين بكل يوم ودقيقة فيهم وكل ساعة من طابور أو لحظة من مواجهة طاولات التفتيش وصافرات انتهاء الزبارة، ودقائقها الجنونية. بعد عام ونصف بكيت كل شيء، كل حتى ما قلت ولم أقل، وكل ما كتمت ولن أبوح به، وكل ما لا يسعني صوغه في كلمات. جلست وظللت أبكي دون توقف خمس ساعات.. خمس ساعات طوال إذا توقفت وشتت نفسي أجدني مازال بي دموع فأفرغها ثم أذكر اليوم فأجد المزيد، ثم أذكر ما مضى فأجد مزيداً من عبرات، هكذا هكذا إلى أن انتهى اليوم ووقعت من التعب والإجهاد والنزف النفسي. صحوت لأعيد زيارة ذاكرة قديمة لي عنك منذ 3 سنوات تدوينة عيد ميلادك أتذكرها؟ فوجدتنى لم أتغير، ولم تتغير ذكرياتنا. كنت أحكي لعلاء كل ذلك الذي كتبت عنك وعن علاقتنا منذ 3 سنوات -بالأمس- في ساعة من طريق، فما الذي تغير؟ القيد؟ الحٍمْل؟
"قد يكون الغيب حلواً" إنما الحاضر مُرَُ يا ست، فحتى أنت لا يدخل صوتك الزنازين قبل ال 11 مساءاً على راديو الموجه الواحدة اف ام - هذا إن كان أحد النزلاء نجح أهله اليوم في تمرير بطاريتين قلم_
(5) أعيدوا عقرب الوقت أحكي لك عن العالم في الخارج عند أول ساعة رأيتك فيها ( من بين أربعة عشر يوم في عام وربع) تركت شطراً مني في المدينة الانجليزية وأنا أهرول للمطار لما أتاني خبرك، لم يتسن لي أن أودع حلا ولا أعلم إن كانت ستتسع لنا الأرض للقاء من جديد أم سَيٌضْرَب في الأرض وجهُ آخر للغائبين. كانت السيارة تنهب الأرض وأنا عائدة من أول زيارة لك، ثم عرجت أعلى هضبة المقدم بعد الخزان فأطلت على حي الأسمرات، رأيته لأول مرة من ارتفاع كافٍ، فما أشبهه بروابِ الشام التي حلمت بها طفولتي كلها. هناك بكيت غيابك وما أنا مقبلة عليه فيه. وكأني كنت أسمع صوتك تلعب مع بعض طلبة أنشطتك بلهجتهن الشامية المحببة. أنا وأنت تشاركنا الحلم بأن لا ننهزم أمام العجز، عرفنا أننا لم نكن لنكف رصاصة واحدة في الحرب أو قرصة بطن واحدة من الجوع. لكننا حاولنا أن نكن حجراً أو وردة تنفرش بها حياة جديدة للمهجرين والنازحين والمكلومين والمستضعفين. وأصدقك يا محمد لقد كنت حجراً راسخاً للكثيرين والآن وأنت تتمرن على الغياب الطويل، وقد أوشك العام الثاني أن يبلغ ربعه إلا هنيهة، أصبحت وردة صبرٍ وجَلدَ عساها تزهر عند أول مطر. وأدعوك أن تكن حجراً يا محمد؛ حجرٌ يعرف كيف يبني من أرض السجن سقف السما.   #يارب_السجن_يموت #2/2 #لأسوار_طرة #يا_ليل_طرة_أقصر 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

Chevening Scholarship Arabic Guide

Chevening Scholarship Interview Guide

IELTS Passing Brief guide