والسجن مطرح الجنينة




(1)
 " رأيتُ محمداً"
هكذا كررت لنفسي طيلة الأسبوع، أنني وبعد ستة أشهر رأيت أخي .. مر ستة أيام -طوال- بقدر الستة أشهر ذاتهم، فقط، ليستقر عندي أني رأيته من جديد. ذاك أن صورته البعيدة التي أحفظها وأحسن استدعاءها لتسري عني لم تعد صالحة بعد اليوم، فالأن ،صاغرةً، أزيحها وأستسلم لصورته بالميري الأبيض والقيد الحديدي و تقاسيم وجهه المقطعة من وراء حجرات السلك الشائك.

أغلف الطعام وأصابعي تهتز كأنها أول مرة .. و لا أعرف ما سأواجهه كأول مرة. هل كنت أظن أن " السلك" سيكون يوماً أكبر مخاوفي؟!. أسري عن نفسي بالصلاة على النبي..وأدفع عني ثِقَلَ الأحمالِ ببركه ذكر المصطفى، وكلما فكرت في الصباح أذكرني بأن أزيد في الصلاة عليه .. صلاةً أستجير بها جواراً منه لم يضم.. انظر لاتساع طريق السفر الطويل في ساعات الصباح الأولى، وأعلم أن اتساع الأرض كلها لا يسعنا ما بقي بعضنا هناك وراء السلك.


(2)
"واتقل علينا بالمواجع والسجن مطرح الجنينة"

يقول محمد أنه ينتظر الزيارة كما كنا ننتظر معاً يوم العيد بثيابنا الجديدة و يتشاجر مع جيرانه في الزنزانه على موعد اغتساله كما كنا نتشاجر في الدقائق الأخيرة قبل الصلاة. تخلص من شعر رأسه وذقنه ليبدو في أفضل هندام ولو لدقائق قليلة فحسب. أعدل أنا من هندامي على بعد أمتار منه وأتدرب على الكلمات التي أعددتها طوال الليل "صحيت يا عم النبطشي؟" أقر أنها مدخلُ هشْ لا يصلح لوصل ما انقطع من ستة أشهر، فأفكر أن أتركه هو ليقول ويفتتح.. ثم أشفق عليه ، ربما أضمه وأكتفي ب " وحشتنا اوى". أتذكر السلك فأحتار وتثقل يداي التي تقبض على الأكياس.

يصل الطفطف المدهون حديثاً إلى باب السجن لأقضي ساعات آخر انتظار، وراء هذا الباب يعيش مُحَمّدْ ، يعيش حياة كاملة لا مكان لنا فيها ولا لغير الصبر " الرفيق المراوغ". حين يأتي دوري يراني عم (ج) وعم ( ع) فيرحبان بي ترحيب أصدقاء قدامي وبحفاوة تناسب حجم الأكياس التي كتب عليها اسم محمد وسوف تمر من أيديهم التي لا تعود فارغة. أرى الأمين فلان فأطلب منه أن يساعدني في حملها للطاولة فيأبى بطبقة صوت لا أسمعها إلا مع أهالى الجنائي، أزيح الكمامة وأذكره بنفسي، مرت ثوان قبل أن يبتسم ويأمر شاب مجند أن يحمل عني وأوميء برأسي أنني لم أنس القواعد و "صباح الخير"

(3)

"أنا رحت القلعة وشفت ياسين حواليه العسكر والزنازين"

يسجل المخبر اسمي وأعبر معه آخر جدار إلى القاعة .. كان لون السلك أخضر واكتست الأرض بنجيلة صناعية من نفس اللون. تحسست فتحات السلك وأنا أحاول أن أتخيل محمد وراءها بعد دقائق، دقائق كانت كافية لتزيح حاجز الصبر والأمل والتصبر والمحاولة والمعافرة وكل ما دون الحقيقة المرة التي ألمسها بيداي الاثنتين، امتلأت مقلتاي عن آخرهما تماماً كأول مرة، واقتربت أصوات الأقدام المصاحبة للشخط والنطر " مي ، هيشوفك بتضحكي" أزفر طويلاً وأنشغل بالبحث عن جملتي الافتتاحية الضائعة لهكذا لقاء. ينفتح الباب وأسمع صوت محمد من بعيد ، يمازح المخبر كعادته ويطلب منه أن" يحترمه العشر دقائق دول قدام أهلي اديلي برستيجي يا عم فلان امال نبطشي ايه وبتاع ايه أنا هدخل لوحدي".

يظهر محمد فألوح له بيدي وكتفي وحجابي وكل ما يسعه أن ينطق فيّ "سلام مطارات لاسلكي" كما وصفه، يقف أمامي على بعد مترين وحاجزين من السلك، فأزفر بقوة وأقول " قعدت تقولي هزور ورا السلك زي عادل امام في المشبوه، اديني جيالك زي بطة اهوه"

(4)

"يا ظريف الطول يا سن الضحوك يا اللي رابي في دلال إمَّك و أبوك
يا ظريف الطول يوم اللي غربوك شعر راسي شاب و الضهر إنحنى"

مرت الربع ساعة كالبرق .. بين أخبارك وأخباركم، إلا أن ذكاء كلانا مكننا أن نتجنب أية أخبار ومقالات تستهلك الوقت واكتفينا بطرائف الزنزانة و الحياة في الكورونا، ثم تبادلنا الشفرات السرية لحكايانا المضحكة حتي لا تصير حكايا النميمة في الرسائل فضائح منتشرة بين مخبري السجن، " عم فلان بيسألني الفار طلع من البيت عندكم ولا لسه". " يلا يا عبدالغني" صوت غير مألوف يقتحم المشهد وينتزعه من أمامي انتزاعاً ويسحبه للخارج. يحاول هو أن يسرق ثواني جديده فيخرج السلسلة التي رسمتها له فيروز، أنا لابسها فرحان بيها أوى بتونسني " سنفعل ما يفعل السجناء وما يفعل العاطلون عن العمل نربي الأمل"



كأن سطوة السجنٍ والسجان تفْجُؤُنِي كل مرة بقدر الفوضي التي تعيثها فيَ لتثبت أنها أقدر وأجدر من محاولاتنا الهشة للعبور من فوق أسواره وفق مواعيد الزيارة و دورنا القدري في انتظار صفوف الطوابير وطاولات التفتيش. سطوةُ أعتى حتى من وجودنا البشري ذاته ... يتهاوى أمامها ما نختار ونحب ويحفظ كرامتنا و ما لا نرضى أن نجاوزه فنكون دون مرتبة البشر. كنت قد وطَنت نفسي على أن ألملم كل ما أحمله وأتركه ورائي في السيارة وأرفع رأسي ولا أحنيها من أول نقطة في السور الطويل. خيط مقاومتي الوحيد كان الحفاظ على كرامتي بكل السبل فهي الشيء الوحيد الذي لا يمكن أن تنتزعه مني أيدي المخبرين و لا تملك أصابع السجانات أن تصل إليه بحثاً عن مهانة متخيلة.


(5)
"إني رأيت اليوم الصورة من برة ..إن البشر واقفة تبكي بدال ما تحوش...وإن الحسين احنا مهما اتقتل عايش."
ينادي محمد .. " حاولي يا مي" لم أفهم، فكرر قوله. لملمت بقايا الزيارة وصوته يبتعد حتى استوعبت فجريت على الضابط استأذنه إن سمح لي أن أسلم عليه؟ يقول لا بحسم شديد ويؤكد على المساواة بيننا جميعاً، أكرر الطلب بأدب وأصمت. تعلمت بالتجربة أن رزق الله هذا البلاء يتجلى واضحاً شيء ما فيّ: يصب علي من الحكمة ووضع أحسن المقال عند الحاجة، شيء من رحمة الله يلين لي به القلوب من حيث لا أحتسب، أسررت بالصلاة على طه، واكتفيت بالرجاء الصامت في نظرة مهذبة ومسافة من ادراك فروق السلطة بيني وبين مُحَدّثِي. يعود لي بعد دقيقة وهو يتفحصني بدقة ويسأل عن مُحَمّدْ، ثم يأمرني بالانتظار وراء الحائط الأسمنتي. على جانب السور خلف الغرفة يبدأ التفتيش في الطريق للزنازين، يشير لي الأمين فلان أن أنتظر هناك حيث أرى القيد لأول مرة وصورة السجن الحقيقية التي لا يخبرنا بها أحد "القيد والأمر والسور" يملكون الجسد بأمر الأوراق الرسمية امتلاكاً ينزعه عن صاحبه نفسه!!.
على غير توقع يظهر محمد مرة أخرى في يده القيد هذه المرة -فأراها، الكلبشات، لأول مرة- يمسك المخبر بيده اليسرى ويقول "يلا"، أدرت وجهي فلم يلبث محمدأن احتضنني لثوانٍ يبدو أنه حسبها جيداً قبل أن يسحبه صاحب القيد. لم أستوعب إلا وقد أولاني ظهره.
(6)
أتأسى بمحمد وأحاول أن أسرق ثوان إضافية فأناديه " يا محمد: وهبت عمري للأمل ولا جاشي والليل علي طويل" كان هذا ما أسعفتني به نفسي لأصد به الدموع الآن الآن .. استعرت الشيخ إمام لأخبره أن الدنيا تنقصه، والبيت، وكل من أحبه، وسائر من عرفوه. توقعت أنه سيفهم شفرة مورس، هذه المرة أيضاً، تماماً كأول مرة ونحن نخطط لأحدى مصائبنا على مرأى من والدينا أن " الأمير الذي سيحضر الجنيات لإخراج الغبار السحري من سجاد القصر" كان إعلاناً مسبقاً أننا سنغرق المنزل كله بخراطيم الماء لنرى ماذا يحدث لو فعلنا ؟؟
ترد عينيه أولاً بابتسامه واسعة ويجيب وجسده كله يتحرك متقافزاً " الصبر فين يا سنين طوال وليالي عيني على الجمل الأصيل العالي". فاجئني هتافه المترنم بينما يضحك المخبرون في غير فهم لما يحدث. أرتبك بينما يمر الشاب قبله للتفتيش .. يصيبني طرفاً من جرأته ويعينني ارتباك مرافقه، ارتباكاً كان كافياً قدر أن أجيبه " لما ينخ الحمل من أحمالي" فيكمل هو معي بحماسة " لكن في كل صباح بنسى الجراح وأنقش بفاسي عالغيطان موالي"يفعل وهو يضبط جسده على وضع الصليب أمام مفتشه بخفة الخبير و حكم العادة. أعرف أن هذا الفتى أخي حقاً حين يفوت عدة أبيات، ويعطل سجانه -المتعجب والمستاء- ولمّا توارى نصفه الأيمن ترك لي وجهه الباسم وصوته العالي " لما حضنتك والبذور مرشوقة غنيت وفي المغنى فرضي للسمرا أرضي هي اللي باقية عالزمن معشوقة" يعود السجن بيننا. ينغلق الباب.
وهبت عمري للأمل أدير ظهري وأنا أتصنع الضحك لأتجاوز نظرات العساكر والمخبرين المستنكرة، أتصنع الدعابة أخفى بها الفخر; فمن غير مُحَمَد يسعه أن يغزل فِعْلَ مُقَاوَمةِ شِاعِريّ من لحظة يحكم عليه السجان فيها القيد. أعود أدراجي عبر نقاط التفتيش الواحدة تلو الأخرى، وأسُرُ لِنَفْسي كَم أنّ هذه الثوانٍ ستسري عني طويلاً وكم أننا مازلنا مجانين كما كنا طوال العمر، وكم أن محمداً لم يفقد ذكاؤه وبريقه، فقد أهدى لي مشهداً ختامياً ملحمياً يصلح أن ننهي به هذا الفصل يوم أن يقدر له الصبور ينتهي.

أغادر آخر نقطة تفتيش من السور .. فتعلم دموعي أنها بلغت الموعد وتهمي طويلاً.أولى ظهري في اتجاه الأوتوستراد أولي وتختفي سريعاً اللافتة الكبيرة (وزارة الداخلية قطاع مصلحة السجون الإدارة العامة لشؤون المنطقة المركزية سجون طرة "أ" ) أختتم أنا المشهد من جهتي "العشق زين بس الهموم سبّاقة والشوف حديد بس الغيوم خنّاقة"
ينتهي سور السجن ويبدأ صخب القاهرة في التعاظم من ورائه صوت الشيخ إمام "والانتظار للوَعْد نار حرّاقة"
سجن طرة: الإثنين السابع من سبتمبر 2020
{السلسلة هدية من إبداع الجميلة



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

Chevening Scholarship Arabic Guide

Chevening Scholarship Interview Guide

IELTS Passing Brief guide