من أم الدنيا ل أم خريستو
(1)
"يلا يا مى .. يلا يا مى" أحدث نفسى التى وصلت المطار مبكرا بأربع ساعات ونصف، وتنتظر أول رحلة لنا معاً خارج الوطن المحروس. أنا أحاول إقناعها بالإثارة والسعادة والاستمتاع بالتفاصيل، وهى قد رسمت 111-ببراعة وأخذت تبحث عن أى أفكار تصلح لمقالات أو تقارير فى أرض المطار. حسناُ يبدو أن أمى نجحت باقتدار أن تجعل منى إمرأة مصرية أصيلة يمكنها أن تحول أى مغامرة ل نكد منقى من أى شوائب ومن جبروتها تستطيع تعبأته وبيعه للمارة.
أنا ونفسى نجحنا أن نتحمس للحظة إقلاع
الطائرة متوقعين أن ترتفع عمودياً ك تايتانيك لحظة الغرق؟؟!! - ولأنى ابنة أمى
بحق- رُزقت بطيار محترف لم نشعر معه
لا بإقلاع ولا بهبوط إلا بالنظر من النافذة. نفسى
المشاغبة لم تغلق حزام المقعد – كعادتها فى مخالفة القواعد، أى قواعد- ، وأخذت
تراقب مصر وتتغنى بجمال البلد من الأعلى وهى تغادرها وتخطط للشعور بالحنين لأم
الدنيا كأى مسافر- علينا أن نفعل ما يفعله الناس مرة على سبيل التغيير-.
(2)
وصلنا إلى المطار الصغيرالذى يجبرنى أن أستغل
هذا المنبر لأعتذر لأخواننا جماعة " الفريق شفيق عمل المطاااار"، وبينما
أنتظر ختم الوصول ظهرت سيدة سورية برفقة
طفلين تجاوزت الطابور بلا وعى لتردها الضابطة فى حين يصطف مواطنى الإتحاد الأوروبى
–أصحاب الأرض- للمرور أولاً ومن ورائهم –لمفاجأتى- حاملى الجوازات الإسرائيلية. إنها
فرصة سانحة فى الحقيقة للتنظير عن عروبتنا وتشرذمنا وهواننا بين الأمن لكنى سأضيع
الفرصة على تعاليم أمى هذه المرة وأتفرغ لمراقبة أثينا أم أوروبا وسيدة التاريخ.
كان
لقائى الأول بأثينا البلد عند انبلاج الصباح مصحوباً بألم فى بطنى حين قررت
المجموعة الذهاب وحدنا للفندق بعد غياب الدليل،- رغم استمتاعى بالتجربة – راودتنى
توقعات مشابهة لمحاولات الوصول من أخر الجيزة لأخر القاهرة اعتماداً على نصائح
المصريين فى المواصلات. لكن السيدة أثينا قررت إحباط أمى مجدداً وتركتنا نتنقل بين
وسائل المواصلات بخريطة بسيطة من المطار للفندق – الآن هو الوقت المناسب ل استعمال
أكلشيه زى عندنا بالضبط!!-
(3)
أقف على باب عربة المترو وحولى سبع رجال على شكل دائرة أنا مركزها بلا
أى ترتيب، اتخذت أسلحتى المعتادة، الحقيبة على ظهري يدى مفتوحة فى وضع التأهب
للدفع أو للضرب أو للطش.. باب المترو يتحرك بهدوء سينمائى وها قد حانت اللحظة
الحاسمة.. التدافع للخروج والدخول. يكمل الباب دورته للجانبين ويتقدم من أمامى فى
بساطة دون أن ينتبه لوجودى خلفه ، يكرر من خلفى طلبه أن أتحرك حتى يستطيع الخروج،
يمر الجميع بجوارى فى هدوء ويصعد المنتظرين ببساطة حركت العقارب فى صدرى (( ماذا
حدث للناس؟؟ هل سأدخل وأخرج من المترو حية
فى كل يوم بلا أحدهم يحاول أن يلمسك عسى أن تكونى فضائية مثلا!!)) ماذا أفعل
الأن بكل الخوف والريبة والتربص الذين حملتهم معى من مصر !!
(4)
السلالم فى أوروبا تصيب الغلابة أمثالنا بحالة انزلاق حضارى مؤلمة، الناس
جميعا على اليمين واليسار فارغ تماما كتقليد أوروبى يسمح للمتعجلين أن يتحركوا
أسرع.الانزلاق ألمنى جداً كفتاة غير قاهرية عاشت بالقاهرة سبع سنوات حتى صادقت
محطات المترو واحدة واحدة، حتى أمكنها أن تحدد بدقة القدر الذى تحتاجه من التدافع
فى كل محطة والزحام على السلالم فى كل الأوقات باستعمال مهاراتى فى الدفع المتوازن؛
الذى يسمح لك بدفع من أمامك والانسحاب فى الوقت المناسب مع ابتسامة بلهاء "
انا ذنبى ايه هم الى بيزقونى".
محطات المترو كلها وعرباتها تحمل لافتات الكترونية مكتوب عليها
باليونانية والإنجليزية اسم المحطة القادمة ورسالة صوتية تنطقها - للمكفوفين
بالطبع- والألطف أن جميع المحطات والأرصفة وكل شئ مجهز لحركة الكراسى المتحركة،
حتى أننى استطعت أن أتحرك بحقيبتى الثقيلة دون صعوبة لأول مرة ف عمرى.
إلا أنه لم يجب أى شخص سؤالى حتى الأن من الذى اخترع هذا النظام ولماذا
يطبقه غالب الناس ببساطة ؟ هل هناك مكافأة مخصصة للنظام لديكم ؟
(5)
نهار خارجى نتحرك فيه إلى الميدان الرئيس
بالعاصمة اليونانية (سينتاجما) درجة
الحرارة مرتفعة لكن الهواء يتحرك بلا لزوجة، الخطة تتضمن التقاط صور مع الحمام فى
الساحة البيضاء كما يفعل كل زائر لأوروبا وتسجيل المظاهر الأوروبية فى بقيتها. أخذت
الفأس أبحث بهمة ف كوم القش عن الاختلافات بين سينتاجما ومحطة الرمل -
الإسكندرانية المبنية على الطراز اليونانى- ، غُلب حمارى فما سوى الناس واللغة
وجود البحر فى محطة الرمل جعلها أجمل وأحب للقلب حتى بالترام القديم والمشاريع
المتكدسة على الكورنيش.
فجأة تأتينى النداهة فتندهنى لأنتبه أن صوتى –
الذى يشبه نداء أم محمد من نافذة الدورالعاشر للأرضى يومياً- كما أصوات زملائي، هو
الوحيد فى الميدان تقريباً رغم تكدسه بالناس والحافلات والترام والسياح. لا تستعمل
السيارات أبواق لكن ماذا عن أصوات الناس؟ هل ابتلعتها آلهة الأوليمب؟ قبل أن تغادر النداهة تلفتنى أن رئتى مرتاحة
تماماً فى الشارع ولا داعى للبخاخ ولا الكمامة, ماذا أين الدخان والعوادم
والسجائر!! كيف أعود لشارعنا الآن وبأى وجه أستقبل شكمانات القاهرة الصديقة؟
(6)
مشهد متكرر على طاولة طعام ما بمعدة خاوية
وأمل أن أكل اليوم، أزدرد السلطة اليونانية فى انتظار الطبق الرئيسي وأتمتم "
رضيت يارب بالطعام النباتى مادمت لا أجد اللحم الحلال اللهم ارضنى بالشبع واللقمة
اللذيذة". تأقلمنا أنا ومعدتى مع أصدقائها الجدد فى هذه الرحلة، البطاطس مقلية ومحمرة ومع الجبن ومسلوقة
ومع الجرجير وبزيت الزيتون والخل والفلفل والزيتون زيتا وثماراً، والجبن ثم الجبن
ثم الجبن والخضروات لا سيما الفلفل متنوعاً بين الأخضر والأحمر والأصفر ومزيدا من
الجبن والخضروات من بينها الجرجير والفلفل وكذلك الجبن المطهى أو الحبوب من عدس
وفاصولياء بألوانهم مع الجبن أو الفلفل والزيتون والخل وربما تكسر الروتين بمكرونة
بزيت الزيتون والجبن والخضروات. ولو كنت محباً للبيتزا لدينا بيتزا نباتية وأنت
تعرف محتواها سلفا الآن... !
سترضى يا صاحبى عن نصيبك حتى أنك ستشترى
عند عودتك جبناً وزيتوناً، أو ستطلب من أهلك أن يعدوا لك دجاجة وكيلو من اللحم
ويقابلوك به فى المطار كما فعلت.
(6)
ليل خارجى كذلك فى قلب المدينة العتيق حيث يرتفع معبد البارثينون فوق هضبة الأكروبوليس ويستقر المعبد اليهودى فى طرف الميدان وتنتثر البيوت المسقوفة بالأحمر على طول الهضبة. مونسترايكى من الأماكن القليلة الى تضج بالصخب لامتلائه بالسياح . وعلى رصيف مرتفع يجلس بعض المصريين فى قمة استمتاعهم بدرة المدينة وتاجها (انترنت مجانى بالميادين يا خواجة).
ليل خارجى كذلك فى قلب المدينة العتيق حيث يرتفع معبد البارثينون فوق هضبة الأكروبوليس ويستقر المعبد اليهودى فى طرف الميدان وتنتثر البيوت المسقوفة بالأحمر على طول الهضبة. مونسترايكى من الأماكن القليلة الى تضج بالصخب لامتلائه بالسياح . وعلى رصيف مرتفع يجلس بعض المصريين فى قمة استمتاعهم بدرة المدينة وتاجها (انترنت مجانى بالميادين يا خواجة).
أرفع ملعقة من الزبادى المثلج بالفواكة إلى
فمى وأحاول تجاهل المتسولين بهدوء، وفى منتصف المشهد يقترب عامل جمع القمامة من
مجموعتى حاملاً منديل ورقى ملقى بالقرب منا؛ يلوح لنا الرجل بالمنديل غاضباً
وموضحاً أن إلقاء القمامة عيب وحرام .. نحاول اقناعه أننا لسنا نحن من ألقينا بالمنديل والمكان ممتلئ عن
أخره بالسياح، فيرطن باليونانى فى غيظ بينما يمسح رأسى الميدان – لا عرب غيرنا
بالمكان ما يجعلنا مرشحين ممتازين لتهم الفوضى وانعدام النظافة-!!
فى
خلفية المشهد لا أنسى أن أستوعب غضب الرجل فهذا المنديل كان أول وأخر شئ أشاهده
ملقى على الأرض طوال خمسة أيام. حاولت كثيراً أن أتصيد مواطناً بليداً يلقى
بالقمامة خارج الصناديق أو عامل بليد لم يلتزم بدوامه وينظف المكان فأضفت هذا إلى
كتاب فشلى فى أراض اليونان.
(7)
بلا دعم إجتماعى وكثرة تشبهك ستضطر للتخلى عن
اعتقاداتك المسبقة عن الآخر والاندماج فى عالمه ليتقبلك وتخفف ضغط الاغتراب.خمس
نهارات وأربع ليالى شكلت فرصة كافية لأشعر أننى فى المنزل - طالما أمكن التحاور مع
أهل البلد بلغة وسيطة- وأتلمس كم هم البشر
متشابهون تماماً من الداخل. على مقاعد المترو تتجاور من استيقظت مبكراً وتزينت
لتلحق بعملها ومن تسرع الخطو دوماً على يسار السلالم وتلحق بباب العربة وهو يغلق
وتكمل تصفيف شعرها فى مرآة الحقيبة الصغيرة، الحامل التى تتناقش مع زوجها فيما
يمكن اقتناصه من تخفيضات كارفور والثنائي الذى يظهر الحب علناً. من ينظر إلى حجابى
بريبة وتربص ومن يبتسم بترحاب يعكس انفتاحه على الغرباء ويحييك ب "صباح
الفل" و "شكرا" "ازيك" بلكنة غربية محببة.
"ديمترى" سائق الأتوبيس السياحى
يصر أن أدفع نصف ثمن التذكرة فحسب لأنى لن أستمتع بالجولة كاملة وأن أخبر زميله
بتوصيته تلك، و ترشدنى إليزابيث إلى مقصدى ثم تستقبلنى بابتسامة واسعة ونحن نتجاور
صدفة داخل المترو ليأخذنا الحديث تماماً عن محاولتها أن تبدأ من جديدومحاولتها
الانتقال إلى بلد جديد وتعلم لغته –وهى
الألمانية فى أربعينات العمر- وعن شغفى للكتابة والصحافة حتى هيأ لى أننا نتحدث
نفس اللغة ونعرف بعضنا لزمن. الإيطاليتان اللتان أصرا أن أتقاسمهم الغداء، وسابينا
المتحيرة بشأن مستقبلها الجامعى وخطتها فى السفر حول أوروبا التى تحتاج مالاً لا
تملكه.
تأتى النداهة التى تذكرنى أن لا أقيم الإنسان
بملابسه ارتداها أو خلعها وألا أكترث لأى رب يصلى وأى فكر يخالفنى فيه ما لم يؤذنى،
فتغمرنى السعادة باللطف والخير فى هؤلاء البشر واتسائل إن كان شعورهم مماثلا تجاه
العرب والمسلمين أمثالى ؟
(9)
خيالاتك تحلق فى الإنسانية جمعاء وأنت ترى
بعض الملامح العربية من حولك وتتفكر فى أصول أجدادهم متمتما بالعربية " هو
احنا مش هنقعد ولا إيه" فترد عليك الإنسانية ممثلة فى هذا الغريب "
تعالى اقعدى يا أنسة" ومن كرم الإنسانية يتكرر الموقف بحذافيره مرتين حتى ينتفى عجبك حين يمر بك غريب فى
الشارع - وأنت تحاول ترتيب حقائبك كيلا تتعدى الوزن المسموح به فى الطائرة- فيسألك
" بدك شئ يا أختى سمعتك بتقولى محتاجين مساعدة". برطم بالعربية فى جزيرة
اليونان وسيرد عليك طوب الأرض فتتفكر من جديد فى الاختلافات الست بين سينتاجما
ومحطة الرمل وبين ام الدنيا والخواجاية أم خريستو.
(10)
بين أطراف النهار والليل ، يظهر طفل قرر استكشاف
غرابة هيئتى عما ألفه برفقة أحد والديه. يقف الصغير بدءاً من دقيقة يخافنى أو
يقترب منى ضاحكاً فيها، حتى خمس دقائق كاملة يتفرسنى بكل بطء وأمه منحنية عليه
تحتضنه وتربت على شعره بكل حنو حتى قرر أن يبادلنى السلام برقة ذكرتنى بجارتى التى
تدق رأس ابنها بالحائط ليذاكر وحنان أمه الغريب المريب بحملة أم ضحى على كريم ليحفظ
" ألهاكم التكاثر" بينما تختلط أيات السورة فى فمها بسباب أبوه وأجداده
جميعا.
يؤكد الجميع علينا أن نتوجه إلى الفندق قبل
ال 11 إذ سينتهى كل شئ تماماً فى ال 12 صباحاً بلا مترو ولا مواصلات عامة سوى التاكسى
ولا أى مظهر للحياة سوى تجمعات السائحين والنوادى الليلية والمتشردين فى الشوارع.
إلا أنهم لم يصدقونا تماماً فاصطدمت بالحقيقة حين حاولت شراء أى شئ بعد السابعة
مساءاً أو البحث عن بقالة يوم الأحد فعدت بالفراغ الكونى. الشوارع الشبه فارغة
ليلاً وطنين النحل بدءاً من السادسة صباحاً يذكرنى كثيراً بمحاولاتى اللولبية
لمعرفة الوقت الذى تنام فيه القاهرة لأحصل على بعض النوم.
(11)
أخبرنى ديمترى أننى سأجد تردداً باللغة
العربية على خدمة الأتوبيس اليونانى السياحى فلما بحثت عنه طويلاً ولم أجده ، أشار
بثقة إلى العلم الإسرائيلى فى قائمة اللغات وإلى الصوت العربى الذى ينطلق عند
الضغط عليه . ثقة جعلتنى أخبره أن العرب فقط يتحثون العربية وابتلعت باقى الحديث
المبتور ببعض الماء لئلا يقف فى حلقى.
وقبل المغادرة تماماً يا صديقى تهت بين الأسر
السورية التى وصلت للتو من حملات الإنقاذ البحرى إلى الميناء اليونانى
"بيريوس" وتوسدت الشارع فيما سبقهم البعض للصق بعض اللافتات بالعربية
على حوائط المحلات، تنبأ بوجود طعام وخدمات عربية للعرب بالجزيرة. احتفظ بلعبة
صغيرة ل "تالة" الرائقة كالصباح التى تاهت منى كذلك فى الشوارع فرحلت ومعى
الدمية أسرح فى ضحكتها القماشية.
أنحنى
لأناول أماً جواز سفرها الذى أسقطه طفلهاوأبتسم؛ لأجده جواز سفر إسرائيلى لمستوطنة
تخبر الضابط فى سعادة أنها تقطن حيفا.. أتسمر إلى أن تنبهنى ضابط التفتيش بندائها
" حاملى الجوازات الإسرائيلية يمرون أولاً".
تعليقات
إرسال تعليق