قمرُ رابٍعْ






مشيت بالأمس إلي المنزل، قطعت العشرين دقيقة على قدمي عوضاً عن انتظار الحافلة لتسع دقائق في برودة هذا المساء. أمارس عادتي الجديدة في تفقد جدول المواعيد كل دقيقتين علني أقابل الحافلة في المحطة القادمة.. حبست رأسي في الهاتف مرة أخرى رغم نداوة الهواء هذي الليلة وحقيقة أن لي حرية استكشاف شوارع جديدة، لا أدركها في الطريق المرسوم كل يوم_ يحده تنبيه يومي بحالة المرور في المنطقة، و تنبيه أخر بموعد المحاضرةالتي لم أصلها أبداٌ في موعدي.
حبست رأسي في الهاتف وأهملت المغريات التي تجر الفراشات في قلبي للتجول .. للتخفف ... واتبعت الطريق المحفوظ ! عادة جديدة هي الأخرى أن أكف عن المناوشة والمحاولة، عن إيجاد المتعة في الطريق؛ تلهي عن ظلمته.


يشير التنبيه أن ( هاء ٩ ) سيصل بعد دقيقتين، وأرى لافتة (نيكواي كريسنت) تلوح بعد أربع خطوات ونصف .. لكني أفكر أن بوسعي صنع انتصار رضيع آخر إن تجاهلته، حتى إن كان مصيره كالفستان الجديد الذي وصل اليوم بسعر جيد، و كسعادتي لما نطق سالم حرف الحاء ورائي في سورة النصر صحيحاً، وكقصة الخمس باوندات التي تبقت من تحدي الحياة بعشرين لمدة شهر كامل، وكذا رقصة البطة التي ابتكرتها ساعة نجحت تجاربي لمرطب الجسد الجديد، كلها،وغيرها، انتقلت من حالة الحماسة المفرطة- كرة الطاقة كما تسميها داليا- إلي الحيرة المربكة" تبحث عن واحد فقط تبسط عند بابه حكاياتك، غير ذات الجدوى، وفرحك البكر" إلي الحزن الشفيف ساعة تلملم كل هذا وتلمس حقيقة عزلتك. أتجاهل ضوء الحافلة يقترب على يساري، وأكمل للمنزل مشياً، أثقل و أبطأ وغالباً سأنسى أن أنظر لصناديق المحادثات الالكترونيةالفارغة من حكايا انتصاراتي أو سواها. تقول هبة إنها لا تجري وراء حافلة أو قطار.. فليذهب.. ستنتظر الذي يليه، تكمل كوب الشوكولا الساخن وهى تضيف أن علي أن لا أدع المدينة تفرض علي ثقافتها.


أذكر وجه هبة طفولي الملامح وأنا أمارس اللامبالاة تجاه ( هاء ١٠ ) وهو يغادر المحطة بفارق بوصة عن موضع قدمي كل صباح ..أقنع نفسي أنني سأتعلم أن أسترخي وأكون أهدأ خلال فترة الانتظار التي تطول لخمسة عشر دقيقة أخريات من عمر المحاضرة. أذكر وجه هبة في الصباح التالي والذي يليه، لكني أنساه حين أرى أبواب القطار المفتوحة وأنا مازلت في أعلى السلم ... فألتهم الدرجات المتبقية وأنا أعد نفسي أنني سأحاول في الغد من جديد.
مشيت بالأمس إلى المنزل دون النظر إلى الخارطة، ذات الطريق الذي مشيت نصفه منذ أربعة أشهر بثياب مبللة تماماُ و محاولات فاشلة لفك رموز الإرشادات .. حفظت الطريق، لكني مازلت لم أحفظ تضاريس نفسي فأظن أني أوهمها أني سأكف عن الجري يوماً وراء أي شيء.


عند مفترق (كينجز رود) و ( مالفرن أفنيو) بدت الشجرة الكبيرة التي قررت تسميتها سوكار-ا لأزهارها الصغيرة الوردية التي تشبة الرسمة في خماري الأبيض- وهي تتمايل مع الريح، يبلغ طول سوكارا عشرة منى فوق بعضهن، وتبدو مثالاُ بديعاُ على رهبة الشتاء، أفرع طويلة تتفرع إلى أصغر في زاوية منها والأصغر تنكسر إلى أصغر وأدق، حتى ترتفع تماما ويسعك رؤية كيف لكل جهة منها شكل متفرد. أردت أن أحب سوكارا كي يكن لي ما أحب في هذه الأرض، وأختارها كي يكن لي مفضلات، ككرسي المقدمة في الطابق العلوي من 114، و الجانب الأيمن من الهضبة الفسيحة المؤدية إلي مدخل (ذا فورم) و شيبا الأسيوي الذي يسرع يفتح لي الحاجز الأمني قبل أن اخرج بطاقتي، ويعلل موقفه بابتسامتي الدائمة. لم يسعني وقت وصولي من سبتمبر أن أصادق الأشجار وكل هذا الأخضر الذي يحوطني كثيفاُ، وسريعا كان تخففه من حمولته, حتى أني استيقظت في الصباح فوسعني أن أرى السنجاب الذي يسكن سقيفتي، خفتت أوراق شجرة البيت حتى لم يجد ما يواريه في رحلته اليومية لإيقاظي عند شروق الشمس.
مازلت أرى سوكارا جميلة رغم خوفي من خواء الشتاء.. ومن افتقادي لورداتها التي أقفز لأداعبها كل صباح، وأغني ( حلمنا نهار ... نهارنا عمل)، فهي في وضع الموت الحالي دليلاُ علي الممكن, سيمر ربع حول آخر وتنبت في طور الإزهار، وستشاهدها فتاة غريبة لم تقع عيناها على وردة تكبر أبداُ، وسيستمر براح الممكن في منحها فرصة لتحضر موسم الربيع بعد أن جاء بها من أقاصي الأرض. قررت هي تسمية "الممكن" بأنها " كأني في التليفزيون" عالم كامل لا تربطها به أية صلة، وواقع أقحمها تطلعها اللانهائي فيه، فتحول الممكن الذي عاشت به حمولتها الثابتة، ٱلى محسوسات تفهمها لكن لا تصدقها ، حتي أنها كثيراً ما تنسى أين هي وتحدث الناس بالعربية.





مشيت بالأمس إلى المنزل، لكني لما تذكرت ألفريدو وروميو عند سوكارا، لم أجد فيّ خفة تكفي للغناء .. كانت أصوات أوراق الأشجار التي تتكسر عند قدمي في الخريف، تغريني أن أدندن هزيم الرعد وأنا أقفز على الورقات الخضراء الداكنة والصفراء فحسب، أرتب الإيقاع بين قفزتي وغنائي جاعلة من صوت تكسرهن موسيقي خلفية لحبوري السري. أفكر أنني سأعود للمنزل وأكتب عن كل هذه المشاعر التي احتدمت في صدري الواسع -ساعتها- وأسهب في وصف البرد وتيهي وحلمي الواسع, لكن تنبيه التطبيق الذي يذكرني بموعد الحافلة يذكرني بوجه هبة فأبدأ الجري من النفق حتى (نورثويك أفنيو) ويتبخر غبار الجنيات الذي غمرني باللطف.




مشيت بالأمس إلى المنزل وأنا أحاول التخفف كما تخففت الشجيرات، والطريق الذي نظفوه من طرح رحمها،فبدا أكثر قسوة. أحاول البحث عن حكمة ما أكتبها كي يسعني الحكي عن الأقمار الأربعة التي مرت علي، ربما يمنحني هذا فرصة للبكاء ... أتذكر، متأخراً، أن أستمع لشيء يؤنسني، فيذوب صوت الشيخ محمد في غنة الآية مبتدئاُ الذي يليها" آلا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون" .... أفكر أن أتفاوض مع حزني فلو زاد مثقال ذرة لأتي بي إلى الله من باب الافتقار والاضطرار .. لكنه آثر أن يقف بين ..بين.. ، لا أفهمه ولا يبارحني.
أوشك أن أغرق في رأسي من جديد، لكن نداء الخالة تسألني إن كنت سأطبخ اليوم ثم عرضها بعض الحساء أفطر به.. يدفع الكثير من الدموع إلى مكانها الطبيعي_ في مقلة العين_ لا في ثقل الجسد، و انقباض الصدر المحتشده فيه. أحاول أن أستثمر دعوتي عند فطري لأي شيء، لكن القلب المجرب يعرف أن الحين أوان حرمان فأستكمل رجائي " آنسني وتولني واجعل لي من لدنك نصيراُ"
يشير تنبيه التطبيق أن يناير قارب أن يزول، و يشير الثامن عشر في اليسار من واجهته أن مرت أربعة أشهر، ذوى فيها كل شيء إلا عنايته ... من رحمة تدبيره الواسع، إلى بابه الذي لم يوصد في وجه ترددي، وحتى طبق حساء يرزق به- ككل رزق- من حيث لا أحتسب.
#الغربة_ناقص_واحد


هذه التدوينة أول سلسلة تدوينات غربتي الكبيرة في جزيرة الضباب بالمملكة المتحدة، عامي ألفين وثمانية عشر، وتسعة عشر من أيام الناس في زمني.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

Chevening Scholarship Arabic Guide

Chevening Scholarship Interview Guide

IELTS Passing Brief guide