حَمّادَة
(1)
صاحبي الى كتفه في كتفي " بيطلع عيني"
أرتدي فستان أبيض عليه حرملة صفراء محفور فيها أشكال منتظمة بارزة على شكل موز. الموز هو فاكهتي المفضلة، ولهذا كان الفستان هو فستان المناسبات. أقفز على درجات السلم رغم تحذيرات أمي، وأقبض على القروش العشرة بإحكام. يسابقني هو منذ عتبة الشارع إلى بقالة "عم عبده"، نشتري شيئين مختلفين ونقتسمهما.
لا أذكر شيئاً قبل أن يكون "هو" موجوداً، ولا أعرف كيف استطاعت أمي تقليل الفارق بهذا الشكل (عشرة شهور!) فلا هي تسعني أن أكون الكبرى فأفرض هيبتي وبعض البرستيج، ولا هي تكفيه أن يعترف أنني الكبرى أمام الناس -بعد أن نمت لحيته وتوقف وجهي عند ملامح الإعدادية، فلم يعد أحد يصدق أنني أكبر.
ولهذه الشهور العشرة تجليات صغيرة؛ تبدت في سخطي أني وجدت أخين فحاولت جعل أقربهما هو شريك لعبي المفضل فيما أسيطر أنا على قيادة الأمور. لكنها لم تترك ملامح عن هذه الأيام بلا ظهوره في الكادر " متخانقين غالباً".
(2)
" مكارينا مكارينا مكارينا اووووه مكارينا "
يقول علم الإدارة أن فريق العمل الناجح يوزع المهام بكفاءة على أفراده، لم تكن القناة الثانية تذيع هذه النصائح، لذا أعتبر هذا دليلاً على موهبتة المبكرة في "الحداقة والفهلوة".
مشهد 1: أفتح باب الشرفة وأخرج الأواني كلها، يغلقه بقوة من الداخل، ونبدأ الحفلة "أولا لا أولا لا أولا لا". يخرج جارنا الأستاذ صبري لاعناً الشارع كله، وفيما أقف "بلماضة" أخبره أنه احنا بنتمرن هنا عشان منصحيش بابا وماما، وأدافع عن حقي في "التخبيط" في الثالثة فجراً يتسلل "هو" للداخل ويختبيء بمهارة، فأنال نصيبه من العلقة كاملاً.
مشهد 2: نقرر بحس الحنان والرحمة في قلوبنا أن نساعد الأم العاملة "الشقيانة" فنبدأ بغسيل السجاد قبل عودتها من المدرسة. أحمد يلعب بفقاعات المسحوق على طرف السجادة ببراءة، بينما أخطط لكيفية تقسيم العمل بيننا، و "هو" يعرض عن تعليماتي ويبدأ بالعمل الشاق بفرشة البلاط. ينتهي المشهد بالأم تغرق في طوفان ملحمي أغرقها وهي بعد على السلم، وأنا في الصدارة -كالعادة- وهو في الشرفة ريثما تنتهي الجولة الأولى من غضبها فيقل نصيبه إلى الربع تقريباً.
مشهد 3: " مين الى شخبط عالمخدة" يهتف الأب منزعجاً، أفكر في عمل بطولي لحمايته، فأنا الكبرى على كل حال، أحاول التصرف ك"هلباوي" كما اعتاد أبي أن يسميني ( هلباوي ده كان المحامي العام في سنة معرفهاش لكن بابا قرر استعماله كوصمة لمحاولاتي الثورية الصغيرة). لكن الطعنة أتت من الخلف " وسوف تجيئك من الخلف فالدم الآن صار وساماً وشارة"
- "مي الى شخبطت أنا مليش دعوة" تجرأ الخائن وقالها، ألصق تهمته بي، الغادر! لذا فدمه هو الذي سوف يهدر، وسوف أشي بكل جرائمه، وسوف أحرمه من نصف طعامي الذي يأخذه، وسوف أخبرهم عن كتاب الألماني الذي قطعه وخبأه تحت التسريحة.
في اليوم التالي: نشكل فرقة لرمي البصل من الشرفة، أتذكر جريمته في لحظة ما، لكني أقرر أن أستمر في عمل الفرقة، وأخدعه هذه المرة وأختبأ أنا وألصق التهمة به " أفشل بكل تأكيد".
(3)
" أنا عندي أقرأ مجلة أو أرسم زي ما أحب"
اعتدنا اقتسام الطريق إلى المدرسة، إلى الخالة، إلى سوق العيد، و عصارة المساكن لشرء الكوكتيل؛ لكننا لم نقتسم مصروفه أبداً. " انتي طالعة فنجرية زيي وهو طالع ناصح لتيتى" اعتادت الأم أن تردد ذلك كلما عدنا بجيبي الفارغ ومعدته العامرة صباح عيد الفطر.
لكن مشوار مكتبة القصيري بعد المدرسة كان دلالة لم تلحظها على نمو غريزة الأنثى التي فطنت لحبه لجمع الأشياء، وكان يعتبر القصص شيئاً ثميناً، فأخذت تصحبه في مشوار شرائها وتقضي ساعات سعيدة مساءً في قراءتها كلها قبله.
جرت الأمور على هذه الشاكلة، "هو" يقضي الفسحة في ضرب العيال الكبار الي في ثالثة ورابعة أو مراقبة "الفتاة القادمة من الكويت صاحبة الطوق الأزرق الكارو" وهي تقضيه مع سلسلة المكتبة الخضراء للأطفال في الفصل الفارغ، ويلتقيان عند انطلاق الجرس يتسابقان إلى المنزل. وكأي براجماتي أصيل كان قادراً على خلق المنفعة من أي مهمة عابرة، فتظن هي أنها أقنعته بينما يوفر طاقته لخطة أخرى.
(4)
" الله أكبر كبيراً .. والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرة وأصيلاً"
اعتادت أن تقول أن لا شيء مميز في كون أخوتك "صبيان"، لكنها كانت تخفي امتنانها له أن حقق رغبتها في المشي فجراً إلى صلاة العيد من بيتهم في أول المنصورة إلى "مسجد الصديق" في آخرها. يقطعان النخلة وأداب والجلاء والمشاية وهما يكبران بسعادة طفولية لا تناسب كونهما في الثانوية الآن.
لم تخبره،كذلك، بأنه حقق لها واحداً من أحلامها :في المرة التي صحبها فيها لدرس الشيخ أحمد جلال المغلق للرجال بعد الفجر، فصلت الفجر في المسجد لأول مرة في غير رمضان، واخترقت عالم "الأخوة" بنجاح.
ولم تخبره بأنها تعد ثواب تقربها لله كله في ميزانه خالصاً، يوم دخل عليها وهي تقرأ " أنا كارنينا"وقال : - ماتيجي معايا المعتكف
- يابني والدروس أنا في ثالثة - ما تروحيها عادي ما أنا هروح دروسي - ما أنا مسجلتش اسمي - ملكيش دعوة هاتى صورة البطاقة. يقابلها على السلم بعد التراويح فتقاسمه الخيرات التي تجود بها النساء، ويقابلها عند السحر فيعطيهاا لعصير والزبادي، ويتمشيان إلى سور النيل المجاور قبل أن يفترقا "عشان يلحقوا يدعوا".
" ايه يا بنتي الى انتى لابساه ده أول مرة أشوفك لابسه بدي" سألها وهي تداري حرجها من البلوزة عديمة الأكمام "ما احنا ملحقناش نشتري طقم للعيد أخرج بإيه؟ كانت الطقم بتاع حفلة سوزان مبارك" يقول مستغرباً "ما تلبسي العباية بتاعتك" تفكر .. تخرج وتعود بأول إسدال وهي تفكر "يا ترى أية الي هتاخد ثوابي عشان شجعتني قبل ما أخرج من المعتكف ولا محمد عشان فكرني؟".
(5)
" الحزب الوطني بيتحرق يا مي الحزب بيتحرق النار بتاكله قدامي اهوه مش راجع دلوقتي"
كان صوته وصوت قرقعة الخشب من وراءه والحشود الصارخة، شديد الطمأنة في قلبي. منذ اختفى عن عيني في المظاهرة وهو محمول على الأكتاف يهتف، وأبي يلاحقه في رعب، وأنا تلاحقني صورة الفتى المقتول في السويس والذي سوف يصبح "مصطفى رجب" بعد أسابيع.
أصلح حجابي في المرآة، وأقشر بصلة، أرجو ألا تتصل أمي قبل أن أخرج فتكشفني، أصلي ركعتين وأعيد النظر للمرآة" هطمن على بابا ومحمد من بعيد، مش هيشوفوني، وبعدين أنا مش جبانة!!". أتذكر ذلك وأنا أحاول مداراة ألم ساقي عنه حين عاد، لم يلحظ أبي ما بي لشدة قلقه عليه، أرجو ألا يكشفني هو. في اليوم التالي يقرر النزول، اتشبث به، بعد قليل أتوقف عن التظاهر وأصرخ من ألام ظهري وساقي اليسرى، يصحبنى للمستشفى ويغير ثيابه وينطلق.
يعود في المساء، يحكي عما فعله "العيال بتوع الحسينية في الداخلية عند الكوبري" أضمد حراحه.. يقول الجملة التي ستغير وجه السنوات القادمة" مدرعات الجيش كانت عاملانا مصيدة مع الأمن المركزي قفلوا علينا عشان منجريش" لم تفهم .. كان شديد الحماسة وهي ملأى بالخوف ..تقول "متخافش الجرج الي فى وشك مش هيسيب أثر الخرطوشة جرحته بس".
"انا لو مكان أخوكي مكنتش سبتك تنزلي أبداً" قال وهو يضحك على يمينها "ما احنا كنا بننزل سوا" علل كلامه بأنه لا مانع لديه أن يصاب أو يضرب ولكن وجود أخته معه أمر مرعب فماذا لو حدث لها شيء. تسرح في يوم الأحد 30 يناير، كانت رائحة الإطارات والمبنى المحترق تصل لآخر شوارع المنصورة، وكمريضة حساسية، تحددت خطة سيرها بعيداً عن آثار روائح قنابل الغاز.. يعبران كوبري القطار وسور المحطة وشارع المختلط وهي تستند إلى ذراعه، نصف مصابيح الإنارة متكسرة، يتركها وسط النساء ويتصدر الهتاف.
" لو مكانه مكنتش هنزلك فعلاً" يعيدها صوته أجش النبرات إلى برودة مدينة نصر في هذه الليلة وتتمتم سراً "الحمد لله أن هو أخويا".
(6)
" باشا يا باشا يا باشا يا كبير ..احناا لفرق ما بيننا كبير .. أنا واقف هنا لجل قضية مش ستني يا باشا ترقية .. أنا واقف هنا لجل شهيد مش مستني يا باشا أناشيد".
كان هتافه المفضل، وكان سهلاً أن تترصده عدسات الكاميرات و كل ملمح في وجهه يصرخ قبل صوته.. وكعادتها في مدارة دموعها أمسكت بالتي فرت سريعاً وهي تدير وجهها عن القفص الحديدي والخمسين المتكدسين فيه.
يد واهنة تحط على كتفها من اليسار . يد لرجل غريب .. تجفل وتقف فورا لتبتعد .. تنتبه وهي تستدير لما يقوله الصوت "مي" أيعرفها؟ ينادي اسمها ثانية "يا مي اسنديني" .. تتفرس في الجسد صاحب البذلة الزرقاء وهو ممسكاً بمصحف كبير "مش معقول" تصرخ .. يرتفع صوتها "محمد!".
يخفض كوب العصير ويقول " انتى جريئة جداً على فكرة عرفتي تدخلى النيابة العسكرية إزاي"، يذكرها به وهو يقول قبل سنوات " أنا حاسس أني مش خايف على محمد وانتي موجودة انتى مش هتسيبيه غير لما يخرج من السجن". تملأها الحيرة وهي تفكر (هل يملك المرء ترك أخيه ..؟ ما لنا من محيص).
تطلب الصديقة أن يحكي لها أحد عن فرحة خروج معتقل فتندفع تصف لها تلك الظهيرة وهو يرتدي قميص أسود مطعم بوردي بعد أن أصر ألا يخرج بثياب السجن، أول ما يطلبه أن يشرب "بيبسي"، و أول ما يزور من المدينة كان "الميدان".
تنظر له-هذه الساعة- وهي لا تعرف من منهم على صواب : هي حين عادت لدروسها وأنشطتها، أم هو حين لم يبرح الأرصفه مع رفاقه حتى شيع أحدهم في ليلة قريبة، و نال ختم "السجن" لمحاولته صلاة الغائب عليه في الميدان الذي أحب.
مازالت لا تعرف فيم أخطأ لما يمازح الصغير كي يدلك ظهره بمستحضر ما "يابني ادعك كويس"، فتمازحه هي "راحت أيام البوكس يا حمادة كان زمانك مقطع الحلبة". لا تخبره ببقية الجملة وتبتلعها " كان زمانك بطل أوليمبي وظهرك سليم بس انت أجدع وأرجل من الميداليات و أجدع مني كمان".
(7)
"روميو صديقي يحفظ عهد الأصدقاء يعرف كيف يجابه الأياااام"
يلعبان الكرة بعلبة مشروب غازي فارغة في الثالثة فجراً، ويتوقفان عند مرور بوكس بجوارهم .. يغرقان في الضحك .. ويذكرهم أن يخفضوا صوتهم "محمود معهوش بطاقة لسة لو حد غلس علينا واتقفشنا هيلبس".
تمتلأ المساحات بهذا الضحك حين يستجيب لمحاولات اغوائه "بعزومة حلوة" للخروج معها قائلاً "انتي فظيعة"، وحين تسرق مشروبه وفاكهته التي يؤجلها وهو يعرف أنها "مش هتجيب له غيرها ولا حاجة". حين يتذكران مصائب الطفولة ويشكك في فهلوته وسذاجتها مبرراً جرائمه الصغيرة بأنه "مش فاكر وهي على طول نصابه". وحين يجتمعان في المنزل كلهم في مرات نادرة منذ أصبح كلاً منهم مقيماً في مدينة مختلفة، فتذكر محمود بأن يبحث عن نسخة مترجمة من الفيلم، فيقف الطعام في حلقه من الضحك" انتوا قصدكوا ايه انتوا عيال رخمة".
كما تمتلأ بالدموع التي تنقلب ضحكاً بقوله "مالك عاملة زي المطلقين كده ليه"، أو تتوقف بطمأنينه وهو يخبرها "متقلقيش أنا هديهملك خلاص بقى".
متى كبر ليعينها هو ويستقيم ظهره -المصاب- لتستند عليه؟!
(8)
" لا تنس أخاك ترعاه يدااك"
يتوعدها بأنه لن يأتي معها لأي مشوار آخر وهذه آخر حقيبة سوف يحملها وسوق يقاطعها تماماً بعد هذا اليوم. تكتم الضحك وتحاول التأسف وتطييب خاطره بجدية "هو أنا لي من غيرك يا حمادة يعني؟"
ثم تقرر أن تحترم غضبه، وتبادر هي بتجهيز كوب شاي وساندوتش.. تبتسم بهدوء وهي تفكر أنه كبر بالفعل، ولم يعد الصغير الذي يشاكسها، ويعاقبها بتركها وحيدة حين تحتاجه.. يكفيها أنه مازال هنا فلا تقلق من مغبة كبرى وهو موجود.
(9)
25 نور وفرحة يا صديقي الصدوق <3
صاحبي الى كتفه في كتفي " بيطلع عيني"
أرتدي فستان أبيض عليه حرملة صفراء محفور فيها أشكال منتظمة بارزة على شكل موز. الموز هو فاكهتي المفضلة، ولهذا كان الفستان هو فستان المناسبات. أقفز على درجات السلم رغم تحذيرات أمي، وأقبض على القروش العشرة بإحكام. يسابقني هو منذ عتبة الشارع إلى بقالة "عم عبده"، نشتري شيئين مختلفين ونقتسمهما.
لا أذكر شيئاً قبل أن يكون "هو" موجوداً، ولا أعرف كيف استطاعت أمي تقليل الفارق بهذا الشكل (عشرة شهور!) فلا هي تسعني أن أكون الكبرى فأفرض هيبتي وبعض البرستيج، ولا هي تكفيه أن يعترف أنني الكبرى أمام الناس -بعد أن نمت لحيته وتوقف وجهي عند ملامح الإعدادية، فلم يعد أحد يصدق أنني أكبر.
ولهذه الشهور العشرة تجليات صغيرة؛ تبدت في سخطي أني وجدت أخين فحاولت جعل أقربهما هو شريك لعبي المفضل فيما أسيطر أنا على قيادة الأمور. لكنها لم تترك ملامح عن هذه الأيام بلا ظهوره في الكادر " متخانقين غالباً".
(2)
" مكارينا مكارينا مكارينا اووووه مكارينا "
يقول علم الإدارة أن فريق العمل الناجح يوزع المهام بكفاءة على أفراده، لم تكن القناة الثانية تذيع هذه النصائح، لذا أعتبر هذا دليلاً على موهبتة المبكرة في "الحداقة والفهلوة".
مشهد 1: أفتح باب الشرفة وأخرج الأواني كلها، يغلقه بقوة من الداخل، ونبدأ الحفلة "أولا لا أولا لا أولا لا". يخرج جارنا الأستاذ صبري لاعناً الشارع كله، وفيما أقف "بلماضة" أخبره أنه احنا بنتمرن هنا عشان منصحيش بابا وماما، وأدافع عن حقي في "التخبيط" في الثالثة فجراً يتسلل "هو" للداخل ويختبيء بمهارة، فأنال نصيبه من العلقة كاملاً.
مشهد 2: نقرر بحس الحنان والرحمة في قلوبنا أن نساعد الأم العاملة "الشقيانة" فنبدأ بغسيل السجاد قبل عودتها من المدرسة. أحمد يلعب بفقاعات المسحوق على طرف السجادة ببراءة، بينما أخطط لكيفية تقسيم العمل بيننا، و "هو" يعرض عن تعليماتي ويبدأ بالعمل الشاق بفرشة البلاط. ينتهي المشهد بالأم تغرق في طوفان ملحمي أغرقها وهي بعد على السلم، وأنا في الصدارة -كالعادة- وهو في الشرفة ريثما تنتهي الجولة الأولى من غضبها فيقل نصيبه إلى الربع تقريباً.
مشهد 3: " مين الى شخبط عالمخدة" يهتف الأب منزعجاً، أفكر في عمل بطولي لحمايته، فأنا الكبرى على كل حال، أحاول التصرف ك"هلباوي" كما اعتاد أبي أن يسميني ( هلباوي ده كان المحامي العام في سنة معرفهاش لكن بابا قرر استعماله كوصمة لمحاولاتي الثورية الصغيرة). لكن الطعنة أتت من الخلف " وسوف تجيئك من الخلف فالدم الآن صار وساماً وشارة"
- "مي الى شخبطت أنا مليش دعوة" تجرأ الخائن وقالها، ألصق تهمته بي، الغادر! لذا فدمه هو الذي سوف يهدر، وسوف أشي بكل جرائمه، وسوف أحرمه من نصف طعامي الذي يأخذه، وسوف أخبرهم عن كتاب الألماني الذي قطعه وخبأه تحت التسريحة.
في اليوم التالي: نشكل فرقة لرمي البصل من الشرفة، أتذكر جريمته في لحظة ما، لكني أقرر أن أستمر في عمل الفرقة، وأخدعه هذه المرة وأختبأ أنا وألصق التهمة به " أفشل بكل تأكيد".
(3)
" أنا عندي أقرأ مجلة أو أرسم زي ما أحب"
اعتدنا اقتسام الطريق إلى المدرسة، إلى الخالة، إلى سوق العيد، و عصارة المساكن لشرء الكوكتيل؛ لكننا لم نقتسم مصروفه أبداً. " انتي طالعة فنجرية زيي وهو طالع ناصح لتيتى" اعتادت الأم أن تردد ذلك كلما عدنا بجيبي الفارغ ومعدته العامرة صباح عيد الفطر.
لكن مشوار مكتبة القصيري بعد المدرسة كان دلالة لم تلحظها على نمو غريزة الأنثى التي فطنت لحبه لجمع الأشياء، وكان يعتبر القصص شيئاً ثميناً، فأخذت تصحبه في مشوار شرائها وتقضي ساعات سعيدة مساءً في قراءتها كلها قبله.
جرت الأمور على هذه الشاكلة، "هو" يقضي الفسحة في ضرب العيال الكبار الي في ثالثة ورابعة أو مراقبة "الفتاة القادمة من الكويت صاحبة الطوق الأزرق الكارو" وهي تقضيه مع سلسلة المكتبة الخضراء للأطفال في الفصل الفارغ، ويلتقيان عند انطلاق الجرس يتسابقان إلى المنزل. وكأي براجماتي أصيل كان قادراً على خلق المنفعة من أي مهمة عابرة، فتظن هي أنها أقنعته بينما يوفر طاقته لخطة أخرى.
(4)
" الله أكبر كبيراً .. والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرة وأصيلاً"
اعتادت أن تقول أن لا شيء مميز في كون أخوتك "صبيان"، لكنها كانت تخفي امتنانها له أن حقق رغبتها في المشي فجراً إلى صلاة العيد من بيتهم في أول المنصورة إلى "مسجد الصديق" في آخرها. يقطعان النخلة وأداب والجلاء والمشاية وهما يكبران بسعادة طفولية لا تناسب كونهما في الثانوية الآن.
لم تخبره،كذلك، بأنه حقق لها واحداً من أحلامها :في المرة التي صحبها فيها لدرس الشيخ أحمد جلال المغلق للرجال بعد الفجر، فصلت الفجر في المسجد لأول مرة في غير رمضان، واخترقت عالم "الأخوة" بنجاح.
ولم تخبره بأنها تعد ثواب تقربها لله كله في ميزانه خالصاً، يوم دخل عليها وهي تقرأ " أنا كارنينا"وقال : - ماتيجي معايا المعتكف
- يابني والدروس أنا في ثالثة - ما تروحيها عادي ما أنا هروح دروسي - ما أنا مسجلتش اسمي - ملكيش دعوة هاتى صورة البطاقة. يقابلها على السلم بعد التراويح فتقاسمه الخيرات التي تجود بها النساء، ويقابلها عند السحر فيعطيهاا لعصير والزبادي، ويتمشيان إلى سور النيل المجاور قبل أن يفترقا "عشان يلحقوا يدعوا".
" ايه يا بنتي الى انتى لابساه ده أول مرة أشوفك لابسه بدي" سألها وهي تداري حرجها من البلوزة عديمة الأكمام "ما احنا ملحقناش نشتري طقم للعيد أخرج بإيه؟ كانت الطقم بتاع حفلة سوزان مبارك" يقول مستغرباً "ما تلبسي العباية بتاعتك" تفكر .. تخرج وتعود بأول إسدال وهي تفكر "يا ترى أية الي هتاخد ثوابي عشان شجعتني قبل ما أخرج من المعتكف ولا محمد عشان فكرني؟".
(5)
" الحزب الوطني بيتحرق يا مي الحزب بيتحرق النار بتاكله قدامي اهوه مش راجع دلوقتي"
كان صوته وصوت قرقعة الخشب من وراءه والحشود الصارخة، شديد الطمأنة في قلبي. منذ اختفى عن عيني في المظاهرة وهو محمول على الأكتاف يهتف، وأبي يلاحقه في رعب، وأنا تلاحقني صورة الفتى المقتول في السويس والذي سوف يصبح "مصطفى رجب" بعد أسابيع.
أصلح حجابي في المرآة، وأقشر بصلة، أرجو ألا تتصل أمي قبل أن أخرج فتكشفني، أصلي ركعتين وأعيد النظر للمرآة" هطمن على بابا ومحمد من بعيد، مش هيشوفوني، وبعدين أنا مش جبانة!!". أتذكر ذلك وأنا أحاول مداراة ألم ساقي عنه حين عاد، لم يلحظ أبي ما بي لشدة قلقه عليه، أرجو ألا يكشفني هو. في اليوم التالي يقرر النزول، اتشبث به، بعد قليل أتوقف عن التظاهر وأصرخ من ألام ظهري وساقي اليسرى، يصحبنى للمستشفى ويغير ثيابه وينطلق.
يعود في المساء، يحكي عما فعله "العيال بتوع الحسينية في الداخلية عند الكوبري" أضمد حراحه.. يقول الجملة التي ستغير وجه السنوات القادمة" مدرعات الجيش كانت عاملانا مصيدة مع الأمن المركزي قفلوا علينا عشان منجريش" لم تفهم .. كان شديد الحماسة وهي ملأى بالخوف ..تقول "متخافش الجرج الي فى وشك مش هيسيب أثر الخرطوشة جرحته بس".
"انا لو مكان أخوكي مكنتش سبتك تنزلي أبداً" قال وهو يضحك على يمينها "ما احنا كنا بننزل سوا" علل كلامه بأنه لا مانع لديه أن يصاب أو يضرب ولكن وجود أخته معه أمر مرعب فماذا لو حدث لها شيء. تسرح في يوم الأحد 30 يناير، كانت رائحة الإطارات والمبنى المحترق تصل لآخر شوارع المنصورة، وكمريضة حساسية، تحددت خطة سيرها بعيداً عن آثار روائح قنابل الغاز.. يعبران كوبري القطار وسور المحطة وشارع المختلط وهي تستند إلى ذراعه، نصف مصابيح الإنارة متكسرة، يتركها وسط النساء ويتصدر الهتاف.
" لو مكانه مكنتش هنزلك فعلاً" يعيدها صوته أجش النبرات إلى برودة مدينة نصر في هذه الليلة وتتمتم سراً "الحمد لله أن هو أخويا".
(6)
" باشا يا باشا يا باشا يا كبير ..احناا لفرق ما بيننا كبير .. أنا واقف هنا لجل قضية مش ستني يا باشا ترقية .. أنا واقف هنا لجل شهيد مش مستني يا باشا أناشيد".
كان هتافه المفضل، وكان سهلاً أن تترصده عدسات الكاميرات و كل ملمح في وجهه يصرخ قبل صوته.. وكعادتها في مدارة دموعها أمسكت بالتي فرت سريعاً وهي تدير وجهها عن القفص الحديدي والخمسين المتكدسين فيه.
يد واهنة تحط على كتفها من اليسار . يد لرجل غريب .. تجفل وتقف فورا لتبتعد .. تنتبه وهي تستدير لما يقوله الصوت "مي" أيعرفها؟ ينادي اسمها ثانية "يا مي اسنديني" .. تتفرس في الجسد صاحب البذلة الزرقاء وهو ممسكاً بمصحف كبير "مش معقول" تصرخ .. يرتفع صوتها "محمد!".
يخفض كوب العصير ويقول " انتى جريئة جداً على فكرة عرفتي تدخلى النيابة العسكرية إزاي"، يذكرها به وهو يقول قبل سنوات " أنا حاسس أني مش خايف على محمد وانتي موجودة انتى مش هتسيبيه غير لما يخرج من السجن". تملأها الحيرة وهي تفكر (هل يملك المرء ترك أخيه ..؟ ما لنا من محيص).
تطلب الصديقة أن يحكي لها أحد عن فرحة خروج معتقل فتندفع تصف لها تلك الظهيرة وهو يرتدي قميص أسود مطعم بوردي بعد أن أصر ألا يخرج بثياب السجن، أول ما يطلبه أن يشرب "بيبسي"، و أول ما يزور من المدينة كان "الميدان".
تنظر له-هذه الساعة- وهي لا تعرف من منهم على صواب : هي حين عادت لدروسها وأنشطتها، أم هو حين لم يبرح الأرصفه مع رفاقه حتى شيع أحدهم في ليلة قريبة، و نال ختم "السجن" لمحاولته صلاة الغائب عليه في الميدان الذي أحب.
مازالت لا تعرف فيم أخطأ لما يمازح الصغير كي يدلك ظهره بمستحضر ما "يابني ادعك كويس"، فتمازحه هي "راحت أيام البوكس يا حمادة كان زمانك مقطع الحلبة". لا تخبره ببقية الجملة وتبتلعها " كان زمانك بطل أوليمبي وظهرك سليم بس انت أجدع وأرجل من الميداليات و أجدع مني كمان".
(7)
"روميو صديقي يحفظ عهد الأصدقاء يعرف كيف يجابه الأياااام"
يلعبان الكرة بعلبة مشروب غازي فارغة في الثالثة فجراً، ويتوقفان عند مرور بوكس بجوارهم .. يغرقان في الضحك .. ويذكرهم أن يخفضوا صوتهم "محمود معهوش بطاقة لسة لو حد غلس علينا واتقفشنا هيلبس".
تمتلأ المساحات بهذا الضحك حين يستجيب لمحاولات اغوائه "بعزومة حلوة" للخروج معها قائلاً "انتي فظيعة"، وحين تسرق مشروبه وفاكهته التي يؤجلها وهو يعرف أنها "مش هتجيب له غيرها ولا حاجة". حين يتذكران مصائب الطفولة ويشكك في فهلوته وسذاجتها مبرراً جرائمه الصغيرة بأنه "مش فاكر وهي على طول نصابه". وحين يجتمعان في المنزل كلهم في مرات نادرة منذ أصبح كلاً منهم مقيماً في مدينة مختلفة، فتذكر محمود بأن يبحث عن نسخة مترجمة من الفيلم، فيقف الطعام في حلقه من الضحك" انتوا قصدكوا ايه انتوا عيال رخمة".
كما تمتلأ بالدموع التي تنقلب ضحكاً بقوله "مالك عاملة زي المطلقين كده ليه"، أو تتوقف بطمأنينه وهو يخبرها "متقلقيش أنا هديهملك خلاص بقى".
متى كبر ليعينها هو ويستقيم ظهره -المصاب- لتستند عليه؟!
(8)
" لا تنس أخاك ترعاه يدااك"
يتوعدها بأنه لن يأتي معها لأي مشوار آخر وهذه آخر حقيبة سوف يحملها وسوق يقاطعها تماماً بعد هذا اليوم. تكتم الضحك وتحاول التأسف وتطييب خاطره بجدية "هو أنا لي من غيرك يا حمادة يعني؟"
ثم تقرر أن تحترم غضبه، وتبادر هي بتجهيز كوب شاي وساندوتش.. تبتسم بهدوء وهي تفكر أنه كبر بالفعل، ولم يعد الصغير الذي يشاكسها، ويعاقبها بتركها وحيدة حين تحتاجه.. يكفيها أنه مازال هنا فلا تقلق من مغبة كبرى وهو موجود.
(9)
25 نور وفرحة يا صديقي الصدوق <3

تعليقات
إرسال تعليق